للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كان أجودَ الأجودين وأرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، فإنَّه أحكم الحاكمين وأعدل العادلين، لا يضع الأشياءَ إلا في مواضعها اللائقة بها، ولا يناقض جودُه ورحمتُه وفضلُه حكمتَه وعدلَه.

ولو رأى العقلاءُ أحدًا منهم قد وضع المِسك في الحشوش والأخلية، ووضَع النجاسات والقاذورات في مواضع الطيب والنظافة لاشتدَّ نكيرهم عليه والقدحُ في عقله، ونسبوه إلى السفَه وخلاف الحكمة. وكذلك لو وضع العقوبة موضع الإحسان، والإحسانَ موضع العقوبة لسفَّهوه، وقدحوا في عقله، كما قال القائل:

ووضعُ النَّدى في موضع السَّيف بالعلا ... مُضِرٌّ كوضع السَّيفِ في موضعِ النَّدى (١)

وكذلك لو وضع الدواءَ موضع الغذاء، والغذاءَ موضع الدواء، والاستفراغ حيث يكون اللائق به عدمه، والإمساكَ حيث يليق الاستفراغ. وكذلك وضع الماء موضعَ الطعام، ووضع (٢) الطعام موضعَ الماء، وأمثال ذلك مما يخل بالحكمة، بل لو أقبل على الحيوان البهيم يريد تعليمه ما لم يُخلق له من العلوم والصنائع. فمن بهرت حكمتُه العقول والألباب كيف ينبغي له أن يضع الأشياء في غير مواضعها اللائقة بها؟

ومن المعلوم أنَّ أجلَّ نعمِه على عبده نعمةُ الإيمان به، ومعرفته، ومحبته، وطاعته، والرضا به، والإنابة إليه، والتوكل عليه، والتزام عبوديته. ومن المعلوم أيضًا أنَّ الأرواح منها الخبيث الذي لا أخبث


(١) للمتنبي في ديوانه (٥٣٣).
(٢) "وضع" ساقط من "ط".