للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وما الموجُ إلا البحرُ لا شيء غيرُه ... وإنْ فرَّقَتْه كثرةُ المتعدّدِ (١)

والقسم الثاني من أقسام الفناء هو الذي يشير إليه المتأخّرون من أرباب السلوك، وهو الفناءُ عن شهود السوى، مع تفريقهم بين الربّ والعبد وبين الطاعة والمعصية، وجعلِهم وجودَ الخالق غيرَ وجودِ المخلوق.

ثمَّ هم مختلفون في هذا الفناء على قولين: أحدهما: أنَّه الغاية المطلوبة من السلوك، وما دونه بالنسبة إليه ناقص، ومن هنا يجعلون المقامات والمنازل معلولة. والقول الثاني: أنَّه من لوازم الطريق لا بدّ منه للسالك، ولكنَّ البقاءَ أكمل منه. وهؤلاء يجعلونه ناقصًا ولكن لا بدَّ منه، وهذه طريقة كثير من المتقدّمين. وهؤلاء يقولون: إنَّ الكمال شهود العبودية مع شهود المعبود، فلا يغيب بعبادته عن معبوده، ولا بمعبوده عن عبادته؛ ولكن لقوَّة الوارد وضعف المحلّ وغلبة استيلاء الوارد على القلب حتَّى يملكه من جميع جهاته، يقع الفناء.

والتحقيق أنَّ هذا الفناءَ ليس بغاية، ولا هو من لوازم الطريق، بل هو عارض من عوارض الطريق يعرض لبعض السالكين دون جميعهم. وسببه أمورٌ ثلاثة:

أحدها: قصده وإرادته والعمل عليه، فإنَّه إذا علم أنَّه (٢) الغاية المطلوبة شمَّر سائرًا إليه عاملًا عليه، فإذا أشرف عليه وقف معه، ونزل بِواديه، وطلَب مساكنتَه، فهؤلاء إنَّما يحصل لهم الفناءُ لأنَّ سيرَهم كان


(١) ذكره شيخ الإسلام في الفتاوى (٢/ ١٦٩، ٣٧٢، ٤٧٤) غير منسوب.
(٢) "أنّه" ساقط من "ب".