للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإذا كان الشوق هو سفر القلب في طلب محبوبه ونزوعه إليه، فهو من أشرف مقامات العبد (١) وأجلّها وأعلاها. ومن أنكر شوقَ العبد إلى ربِّه فقد أنكر محبته له؛ لأنَّ المحبَّة تستلزم (٢) الشوق. فالمحبّ دائمًا مشتاق إلى لقاء حبيبه (٣)، لا يهدأ قلبه، ولا يقرّ قراره إلا بالوصول إليه.

وأمَّا (٤) قوله: "إنَّ الشوق عند الخواصّ علَّة عظيمة؛ لأنَّ الشوق إنَّما يكون إلى غائب، ومذهب هذه الطائفة إنَّما قام على المشاهدة".

فيقال: المشاهدة نوعان: مشاهدة عرفان، ومشاهدة عيان، وبينهما من التفاوت ما بين اليقين والعيان. ولا ريب أنَّ مشاهدة العرفان متفاوتة بحسب تفاوت الناس في المعرفة (٥)، ورسوخهم فيها، وليس للمعرفة نهاية تنتهي إليها بحيث إذا وصل إليها العارف سكن قلبه عن الطلب، بل كلَّما وصل منها إلى معلَم ومنزلة اشتدَّ شوقه إلى ما وراءه. فكلَّما (٦) ازداد معرفةً ازداد شوقًا. فشوق العارف أعظم الشوق، فلا يزال في مزيد من الشوق ما دام في مزيد من المعرفة، فكيف يكون الشوق عنده علَّةً عظيمةً؟ هذا من المحال البيِّن. بل من عرف اللَّه اشتاق إليه، وإذا كانت المعرفة لا نهاية لها، فشوق العارف لا نهاية له.


= محمد- أبو الطيب الصوفي، جالس الجنيد وأقرانه. وروى عنه الحاكم وغيره. تاريخ بغداد (١٢/ ٣٩٠).
(١) "ط": "العبيد".
(٢) "ط": "تستلذ"، تحريف.
(٣) "ط": "محبوبه".
(٤) "ك، ط": "فأما".
(٥) "ط": "بالمعرفة".
(٦) "ط": "وكلما".