للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فلو توهّم العبد المسكين هذه الحالَ، وصوّرَتْها له نفسُه، وأرته إيّاها على حقيقتها، لتقطع واللَّهِ قلبُه، ولم يلتذَّ بطعام ولا شراب؛ ولخرج إلى الصُّعُدات (١) يجأَر إلى اللَّه، ويستغيث به، ويستعتبه (٢) في زمن الاستعتاب. هذا مع أنَّه إذا آثر شهواته ولذّاته الفانية التي هي كخيال طَيف أو مُزنة صَيف نُغِّصت عليه لذّتُها أحوجَ ما كان إليها، وحيل بينه وبينها أقدرَ ما كان عليها!

وتلك سنّة اللَّه في خلقه، كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس/ ٢٤].

وهذا هو غِبّ إعراضه وإيثاره شهوتَه (٣) على مرضاة ربّه، فيعوّق (٤) القدرُ عليه أسبابَ مراده، فيخسر الأمرين جميعًا. فيكون معذَّبًا في الدنيا بتنغيص شهواته وشدة اهتمامه بطلب ما لم يُقسَم له، وإن قُسِم له منه شيء فحشوه الخوفُ والحزن (٥) والنكد والألم. فهمٌّ لا ينقطع، وحسرة لا تنقضي، وحرص لا ينفد، وذلّ لا ينتهي، وطمع لا يُقلِع!


(١) الصعدات: الطرق أو البراري والصحاري وبكليهما فسرت الكلمة في حديث أبي ذر: "ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى اللَّه". أخرجه الترمذي في الزهد (٢٤١٤). انظر: تحفة الأحوذي (٦/ ٤٩٦).
(٢) "ب": "يستعينه".
(٣) "ك، ط": "إيثار شهوته".
(٤) "ط": "يعوق".
(٥) "ك": "الحزن والخوف".