ثُمَّ سَارَ السُّلْطَانُ فِي بَقِيَّةِ الْمُحَرَّمِ إِلَى مَدِينَةِ حَلَبَ فَنَازَلَهَا وَحَاصَرَهَا، وَقَاتَلَهُ أَهْلُهَا قِتَالًا جَيِّدًا، وَجُرِحَ أَخُو السُّلْطَانِ تَاجُ الْمُلُوكِ بُورِي بْنُ أَيُّوبَ جُرْحًا بَلِيغًا، فَمَاتَ مِنْهُ بَعْدَ أَيَّامٍ وَكَانَ أَصْغَرَ أَوْلَادِ أَيُّوبَ، لَمْ يَبْلُغْ عِشْرِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: بَلْ جَاوَزَهَا بِسَنَتَيْنِ، وَكَانَ ذَكِيًّا فَهِمًا، لَهُ دِيوَانُ شِعْرٍ لَطِيفٍ، فَحَزِنَ عَلَيْهِ أَخُوهُ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينِ حُزْنًا شَدِيدًا، وَدَفَنَهُ بِحَلَبَ، ثُمَّ نَقَلَهُ إِلَى دِمَشْقَ ثُمَّ اتَّفَقَ الْحَالُ بَيْنَ السُّلْطَانِ وَبَيْنَ صَاحِبِ حَلَبَ عِمَادِ الدِّينِ زَنْكِيِّ بْنِ مَوْدُودِ بْنِ زَنْكِيِّ بْنِ آقْ سُنْقُرَ عَلَى عِوَضٍ أَطْلَقَهُ وَهُوَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ سِنْجَارَ وَيُسَلِّمَهُ الْبَلَدَ، فَخَرَجَ عِمَادُ الدِّينِ زَنْكِيٌّ، وَجَاءَ إِلَى خِدْمَةِ السُّلْطَانِ، وَعَزَّاهُ فِي أَخِيهِ، وَنَزَلَ عِنْدَهُ فِي الْمُخَيَّمِ، وَنَقَلَ أَثْقَالَهُ إِلَى سِنْجَارَ وَزَادَهُ السُّلْطَانُ الْخَابُورَ وَالرَّقَّةَ وَنَصِيبِينَ وَسَرُوجَ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ إِرْسَالَ الْعَسْكَرِ فِي الْخِدْمَةِ لِلْغُزَاةِ، ثُمَّ سَارَ وَوَدَّعَهُ السُّلْطَانُ وَمَكَثَ السُّلْطَانُ فِي الْمُخَيَّمِ أَيَّامًا غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِحَلَبَ، وَلَا مُسْتَكْثِرٍ لَهَا وَلَا بِهَا، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى قَلْعَتِهَا يَوْمَ الِاثْنَيْنِ سَابِعَ عَشَرَ صَفَرٍ مُؤَيَّدًا مَنْصُورًا مَحْبُورًا، وَعَمِلَ لَهُ الْأَمِيرُ طَمَّانُ وَلِيمَةً عَظِيمَةً، وَكَانَ يَوْمًا مَشْهُودًا فَسَمِعَهُ بَعْضُهُمْ وَهُوَ دَاخِلٌ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} [آل عمران: ٢٦] الْآيَةَ. وَلَمَّا دَخَلَ دَارَ الْمَلِكِ تَلَا: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [الأحزاب: ٢٧] وَلَمَّا دَخَلَ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ صَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ وَأَطَالَ السُّجُودَ وَالدُّعَاءَ وَالتَّضَرُّعَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ شَرَعَ فِي عَمَلِ وَلِيمَةٍ عَظِيمَةٍ، وَقَدْ ضُرِبَتِ الْبَشَائِرُ، وَخَلَعَ السُّلْطَانُ عَلَى الْأُمَرَاءِ، وَأَحْسَنَ إِلَى الرُّؤَسَاءِ وَالْفُقَرَاءِ، وَأَلْقَتِ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا، وَقَضَتِ الْقُلُوبُ أَوْطَارَهَا.
وَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى ... كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالْإِيَابِ الْمُسَافِرُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute