للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَلَا مِنَ الْقُضَاةِ، فَقَالَ لَهُمُ السُّلْطَانُ: مَا تَقُولُونَ؟ يَسْتَفْتِيهِمْ فِي ذَلِكَ، فَلَمْ يَتَكَلَّمْ أَحَدٌ، فَجَثَا الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَتَكَلَّمَ مَعَ السُّلْطَانِ بِكَلَامٍ غَلِيظٍ، وَرَدَّ عَلَى الْوَزِيرِ مَا قَالَهُ رَدًّا عَنِيفًا، وَجَعْلَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ، وَالسُّلْطَانُ يَتَلَافَاهُ وَيُسْكِتُهُ بِتَرَفُّقٍ وَتَوَدُّدٍ وَتَوْقِيرٍ، وَبَالَغَ الشَّيْخُ فِي الْكَلَامِ، وَقَالَ مَا لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَقُومَ بِمِثْلِهِ وَلَا قَرِيبٍ مِنْهُ، وَبَالَغَ فِي التَّشْنِيعِ عَلَى مَنْ يُوَافِقُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَالَ لِلسُّلْطَانِ: حَاشَاكَ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُ مَجْلِسٍ جَلَسْتَهُ فِي أُبَّهَةِ الْمُلْكِ تَنْصُرُ فِيهِ أَهْلَ الذِّمَّةِ لِأَجْلِ حُطَامِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، فَاذْكُرْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكَ إِذْ رَدَّ مُلْكَكَ إِلَيْكَ، وَكَبَتَ عَدُوَّكَ، وَنَصَرَكَ عَلَى أَعْدَائِكِ، فَذَكَرَ أَنَّ الْجَاشْنَكِيرَ هُوَ الَّذِي جَدَّدَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ، فَقَالَ: وَالَّذِي فَعَلَهُ الْجَاشْنَكِيرُ كَانَ مِنْ مَرَاسِيمِكَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا كَانَ نَائِبًا لَكَ، فَأَعْجَبَ السُّلْطَانَ ذَلِكَ، وَاسْتَمَرَّ بِهِمْ عَلَى ذَلِكَ، وَجَرَتْ فُصُولٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَقَدْ كَانَ السُّلْطَانُ أَعْلَمَ بِالشَّيْخِ مِنْ جَمِيعِ الْحَاضِرِينَ، وَبِعِلْمِهِ، وَدِينِهِ، وَقِيَامِهِ بِالْحَقِّ، وَشَجَاعَتِهِ، وَسَمِعْتُ الشَّيْخَ تَقِيَّ الدِّينِ يَذْكُرُ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّلْطَانِ مِنَ الْكَلَامِ لَمَّا انْفَرَدَا فِي ذَلِكَ الشُّبَّاكِ الَّذِي جَلَسَا فِيهِ، وَأَنَّ السُّلْطَانَ اسْتَفْتَى الشَّيْخَ فِي قَتْلِ بَعْضِ الْقُضَاةِ بِسَبَبِ مَا كَانُوا تَكَلَّمُوا فِيهِ، وَأَخْرَجَ لَهُ فَتَاوَى بَعْضِهِمْ بِعَزْلِهِ مِنَ الْمُلْكِ وَمُبَايِعَةِ الْجَاشْنَكِيرِ، وَأَنَّهُمْ قَامُوا عَلَيْكَ وَآذَوْكَ أَنْتَ أَيْضًا! وَأَخَذَ يَحُثُّهُ بِذَلِكَ عَلَى أَنْ يُفْتِيَهُ فِي قَتْلِ بَعْضِهِمْ، وَإِنَّمَا كَانَ حَنَقُهُ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِ مَا كَانُوا سَعَوْا فِيهِ مِنْ عَزْلِهِ وَمُبَايَعَةِ الْجَاشْنَكِيرِ، فَفَهِمَ الشَّيْخُ مُرَادَ السُّلْطَانِ، فَأَخَذَ فِي تَعْظِيمِ الْقُضَاةِ وَالْعُلَمَاءِ، وَيُنْكِرُ أَنْ يَنَالَ أَحَدًا مِنْهُمْ سُوءٌ، وَقَالَ لَهُ: إِذَا قَتَلْتَ هَؤُلَاءِ لَا تَجِدُ بِعْدَهُمْ مِثْلَهُمْ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّهُمْ قَدْ آذَوْكَ وَأَرَادُوا قَتْلَكَ مِرَارًا، فَقَالَ الشَّيْخُ: مَنْ آذَانِي فَهُوَ فِي حِلٍّ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَاللَّهُ يَنْتَقِمُ مِنْهُ، وَأَنَا لَا أَنْتَصِرُ لِنَفْسِي. وَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى حَلُمَ عَنْهُمُ السُّلْطَانُ وَصَفَحَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>