سَمِينًا حَتَّى يُكْشَفَ مَا بِالنَّاسِ، فَكَانَ فِي زَمَنِ الْخِصْبِ يُبَسُّ لَهُ الْخُبْزُ بِاللَّبَنِ وَالسَّمْنِ، ثُمَّ كَانَ عَامَ الرَّمَادَةِ يُبَسُّ لَهُ بِالزَّيْتِ وَالْخَلِّ، وَكَانَ يَسْتَمْرِئُ الزَّيْتَ، وَكَانَ لَا يَشْبَعُ مَعَ ذَلِكَ، فَاسْوَدَّ لَوْنُ عُمَرَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَتَغَيَّرَ جِسْمُهُ حَتَّى كَادَ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنَ الضَّعْفِ. وَاسْتَمَرَّ هَذَا الْحَالُ فِي النَّاسِ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ، ثُمَّ تَحَوَّلَ الْحَالُ إِلَى الْخِصْبِ وَالدَّعَةِ، وَانْشَمَرَ النَّاسُ عَنِ الْمَدِينَةِ إِلَى أَمَاكِنِهِمْ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ قَالَ لِعُمَرَ حِينَ تَرَحَّلَ الْأَحْيَاءُ عَنِ الْمَدِينَةِ: لَقَدِ انْجَلَتْ عَنْكَ وَإِنَّكَ لَابْنُ حُرَّةٍ. أَيْ: وَاسَيْتَ النَّاسَ وَأَنْصَفْتَهُمْ وَأَحْسَنْتَ إِلَيْهِمْ. وَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ عُمَرَ عَسَّ الْمَدِينَةَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا يَضْحَكُ، وَلَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ فِي مَنَازِلِهِمْ عَلَى الْعَادَةِ، وَلَمْ يَجِدْ سَائِلًا يَسْأَلُ، فَسَأَلَ عَنْ سَبَبٍ ذَلِكَ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ السُّؤَّالَ سَأَلُوا فَلَمْ يُعْطَوْا فَقَطَعُوا السُّؤَالَ، وَالنَّاسُ فِي هَمٍّ وَضِيقٍ، فَهُمْ لَا يَتَحَدَّثُونَ وَلَا يَضْحَكُونَ. فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي مُوسَى بِالْبَصْرَةِ: أَنْ يَا غَوْثَاهُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ. وَكَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بِمِصْرَ: أَنْ يَا غَوْثَاهُ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ. فَبَعَثَ إِلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَافِلَةٍ عَظِيمَةٍ تَحْمِلُ الْبُرَّ وَسَائِرَ الْأَطْعِمَاتِ، وَوَصَلَتْ مِيرَةُ عَمْرٍو فِي الْبَحْرِ إِلَى جُدَّةَ وَمِنْ جُدَّةَ إِلَى مَكَّةَ. وَهَذَا الْأَثَرُ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ، لَكِنَّ ذِكْرَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ مُشْكِلٌ؛ فَإِنَّ مِصْرَ لَمْ تَكُنْ فُتِحَتْ فِي سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامُ الرَّمَادَةِ بَعْدَ سَنَةِ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ، أَوْ يَكُونَ ذِكْرُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فِي عَامِ الرَّمَادَةِ وَهْمًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute