فَصْلٌ
لَمَّا قَرَّرَ السُّلْطَانُ صَلَاحُ الدِّينِ بِالْقُدْسِ الشَّرِيفِ مَا ذَكَرْنَاهُ انْفَصَلَ عَنْهَا فِي الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ مِنْ شَعْبَانَ، وَأَمَرَ وَلَدَهُ الْعَزِيزَ بِالرُّجُوعِ إِلَى مِصْرَ، وَسَارَ السُّلْطَانُ بِجَيْشِهِ فَقَصَدَ مَدِينَةَ صُورَ وَكَانَتْ قَدْ تَأَخَّرَتْ مِنْ بَيْنِ تِلْكَ النَّوَاحِي، وَقَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا بَعْدَ وَقْعَةِ حِطِّينَ رَجُلٌ مِنَ التُّجَّارِ يُقَالُ لَهُ: الْمَرْكِيسُ، فَحَصَّنَهَا وَضَبَطَ أَمَرَهَا وَحَفَرَ حَوْلَهَا خَنْدَقًا مِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْبَحْرِ، وَجُمْهُورُهَا فِي الْبَحْرِ، وَجَاءَ السُّلْطَانُ بِجَيْشِهِ فَحَاصَرَهَا مُدَّةً، وَاسْتَدْعَى بِالْأُسْطُولِ مِنَ الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ فِي الْبَحْرِ، فَاحْتَاطَ بِهَا بَرًّا وَبَحْرًا، فَعَدَتِ الْفِرِنْجُ فِي بَعْضِ اللَّيَالِي عَلَى خَمْسِ شُوَانٍ مِنَ الْأُسْطُولِ، فَمَلَكَتْهَا وَنَكَبَتْهَا، فَأَصْبَحَ الْمُسْلِمُونَ وَاجِمِينَ، وَقَدْ دَخَلَ عَلَيْهِمُ الْبَرْدُ وَقَلَّتِ الْأَزْوَادُ، وَكَثُرَتِ الْجِرَاحَاتُ وَكَلَّ الْأُمَرَاءُ مِنَ الْمُحَاصَرَاتِ، فَسَأَلُوا السُّلْطَانَ أَنْ يَنْصَرِفَ بِهِمْ إِلَى دِمَشْقَ فِي هَذَا الْوَقْتِ حَتَّى يَسْتَرِيحُوا ثُمَّ يَعُودُوا إِلَيْهَا بَعْدَ هَذَا الْحِينِ، فَأَجَابَهُمْ بَعْدَ تَمَنُّعٍ مِنْهُ وَذَلِكَ أَنَّ السُّورَ مِنْ صُورَ كَانَ قَدْ هُدِمَ أَكْثَرُهُ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْفَتْحُ وَالنَّجْحُ، فَتَوَجَّهَ إِلَى دِمَشْقَ وَاجْتَازَ فِي طَرِيقِهِ عَلَى عَكَّا وَتَفَرَّقَتِ الْعَسَاكِرُ كُلٌّ إِلَى بَلَدِهِ وَرُسْتَاقِهِ، مُسْتَصْحِبًا كَثْرَةَ حَنِينِهِ إِلَى أَهْلِهِ وَوَطَنِهِ وَاشْتِيَاقِهِ.
وَأَمَّا السُّلْطَانُ فَإِنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إِلَى عَكَّا نَزَلَ بِقَلْعَتِهَا وَأَسْكَنَ وَلَدَهُ الْأَفْضَلَ بُرْجُ الدَّاوِيَّةِ، وَوَلَّى نِيَابَتَهَا عِزَّ الدِّينِ جُرْدَيْكَ، وَقَدْ أَشَارَ بَعْضُهُمْ عَلَى السُّلْطَانِ بِتَخْرِيبِ مَدِينَةِ عَكَّا خَوْفًا مِنْ عَوْدِ الْفِرِنْجِ إِلَيْهَا، فَكَادَ، وَلَمْ يَفْعَلْ، وَلَيْتَهُ فَعَلَ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute