وَلَمَّا انْفَصَلَ الْحَالُ، وَتَسَلَّمُوا عَكَّا وَقَتَلُوا أَكْثَرَ مَنْ كَانَ بِهَا، وَسَارُوا بَرُمَّتِهِمْ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ; جَعَلَ يُسَايِرُهُمْ مَنْزِلَةً مَنْزِلَةً، وَمَرْحَلَةً مَرْحَلَةً وَجُيُوشُهُمْ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَنْ مَعَهُ، وَمَعَ هَذَا نَصَرَهُ اللَّهُ وَخَذَلَهُمْ، وَأَيَّدَهُ وَقَتَلَهُمْ، وَسَبَقَهُمْ إِلَى الْبَيْتِ الْمُقَدَّسِ، فَصَانَهُ وَحَمَاهُ، وَشَيَّدَ بُنْيَانَهُ، وَأَطَّدَ أَرْكَانَهُ، وَصَانَ حِمَاهُ وَلَمْ يَزَلْ بِجَيْشِهِ مُقِيمًا بِهِ يُرْهِبُهُمْ وَيُرْعِبُهُمْ، وَيَغْلِبُهُمْ وَيَسْلُبُهُمْ وَيَكْسِرُهُمْ وَيَأْسِرُهُمْ، حَتَّى تَضَرَّعُوا إِلَيْهِ، وَخَضَعُوا لَدَيْهِ، وَدَخَلُوا عَلَيْهِ أَنْ يُصَالِحَهُمْ وَيُتَارِكَهُمْ، وَتَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فَأَجَابَهُمْ إِلَى مَا سَأَلُوا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرَادَهُ، لَا مَا يُرِيدُونَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الرَّحْمَةِ الَّتِي خُصَّ بِهَا الْمُؤْمِنُونَ ; فَإِنَّهُ مَا انْقَضَتْ تِلْكَ السُّنُونَ حَتَّى مَلَكَ الْبِلَادَ أَخُوهُ أَبُو بَكْرٍ الْعَادِلُ، فَعَزَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، وَذَلَّ بِهِ الْكَافِرُونَ.
وَكَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ سَخِيًّا كَرِيمًا حَيِيًّا ضَحُوكَ الْوَجْهِ كَثِيرَ الْبِشْرِ، لَا يَتَضَجَّرُ مِنْ خَيْرٍ يَفْعَلُهُ، شَدِيدَ الْمُصَابَرَةِ وَالْمُثَابَرَةِ عَلَى الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ فَرَحِمَهُ اللَّهُ، وَأَسْكَنَهُ الْجَنَّاتِ. وَقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ شِهَابُ الدِّينِ أَبُو شَامَةَ طَرَفًا صَالِحًا مِنْ سِيرَتِهِ وَأَيَّامِهِ، وَعَدْلِهِ فِي سَرِيرَتِهِ وَعَلَانِيَتِهِ، وَأَحْكَامِهِ.
فَصْلٌ
كَانَ السُّلْطَانُ الْمَلِكُ صَلَاحُ الدِّينَ قَدْ قَسَّمَ الْبِلَادَ بَيْنَ أَوْلَادِهِ، فَالدِّيَارُ الْمِصْرِيَّةُ لِوَلَدِهِ الْعَزِيزِ عِمَادِ الدِّينِ عُثْمَانَ أَبِي الْفَتْحِ، وَبِلَادُ دِمَشْقَ وَمَا حَوْلَهَا لِوَلَدِهِ الْأَفْضَلِ نُورِ الدِّينِ عَلَيٍّ، وَهُوَ أَكْبَرُ أَوْلَادِهِ كُلِّهِمْ، وَالْمَمْلَكَةُ الْحَلَبِيَّةُ لِوَلَدِهِ الظَّاهِرِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute