فَقَدْ تَمَسَّكَ بَعْضُ النَّاسِ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى تَقَدُّمِ خَلْقِ السَّمَاءِ عَلَى خَلْقِ الْأَرْضِ، فَخَالَفُوا صَرِيحَ الْآيَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ، وَلَمْ يَفْهَمُوا هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ. فَإِنَّ مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ دَحْيَ الْأَرْضِ وَإِخْرَاجَ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى مِنْهَا بِالْفِعْلِ بَعْدَ خَلْقِ السَّمَاءِ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مُقَدَّرًا فِيهَا بِالْقُوَّةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت: ١٠] . أَيْ هَيَّأَ أَمَاكِنَ الزَّرْعِ وَمَوَاضِعَ الْعُيُونِ وَالْأَنْهَارِ، ثُمَّ لَمَّا أَكْمَلَ خَلْقَ صُورَةِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ وَالْعُلْوِيِّ دَحَى الْأَرْضَ، فَأَخْرَجَ مِنْهَا مَا كَانَ مُودَعًا فِيهَا فَخَرَجَتِ الْعُيُونُ، وَجَرَتِ الْأَنْهَارُ، وَنَبَتَ الزَّرْعُ وَالثِّمَارُ ; وَلِهَذَا فَسَّرَ الدَّحْىَ بِإِخْرَاجِ الْمَاءِ وَالْمَرْعَى مِنْهَا وَإِرْسَاءِ الْجِبَالِ، فَقَالَ: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} [النازعات: ٣٠] . وَقَوْلُهُ {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} [النازعات: ٣٢] . أَيْ قَرَّرَهَا فِي أَمَاكِنِهَا الَّتِي وَضَعَهَا فِيهَا وَثَبَّتَهَا وَأَكَّدَهَا وَأَطَّدَهَا. وَقَوْلُهُ {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: ٤٧] . أَيْ بَسَطْنَاهَا وَجَعَلْنَاهَا مَهْدًا أَيْ قَارَّةً سَاكِنَةً غَيْرَ مُضْطَرِبَةٍ وَلَا مَائِدَةٍ بِكُمْ، وَلِهَذَا قَالَ: {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات: ٤٨] . وَالْوَاوُ لَا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ فِي الْوُقُوعِ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي الْإِخْبَارَ الْمُطْلَقَ فِي اللُّغَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute