للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَظِيمُ طَلِبَةٍ فِي عِلْمِ وَلِيٍّ غَيْرِ وَاجِبِ الْعِصْمَةِ، وَلَمَّا عَزَمَ عَلَى الذَّهَابِ إِلَيْهِ، وَالتَّفْتِيشِ عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنَّهُ يَمْضِي حُقُبًا مِنَ الزَّمَانِ، قِيلَ: ثَمَانِينَ سَنَةً. ثُمَّ لَمَّا اجْتَمَعَ بِهِ تَوَاضَعَ لَهُ، وَعَظَّمَهُ، وَاتَّبَعَهُ فِي صُورَةِ مُسْتَفِيدٍ مِنْهُ، دَلَّ عَلَى أَنَّهُ نَبِيٌّ مِثْلُهُ يُوحَى إِلَيْهِ كَمَا يُوحَى إِلَيْهِ، وَقَدْ خُصَّ مِنَ الْعُلُومِ اللَّدُنِّيَّةِ، وَالْأَسْرَارِ النَّبَوِيَّةِ، بِمَا لَمْ يُطْلِعِ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى، الْكَلِيمَ، نَبِيَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكَرِيمَ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذَا الْمَسْلَكِ بِعَيْنِهِ الرُّمَّانِيُّ، عَلَى نُبُوَّةِ الْخَضِرِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ. الثَّالِثُ، أَنَّ الْخَضِرَ أَقْدَمَ عَلَى قَتْلِ ذَلِكَ الْغُلَامِ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا لِلْوَحْيِ إِلَيْهِ مِنَ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ. وَهَذَا دَلِيلٌ مُسْتَقِلٌّ عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَبُرْهَانٌ ظَاهِرٌ عَلَى عِصْمَتِهِ; لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِ النُّفُوسِ بِمُجَرَّدِ مَا يُلْقَى فِي خَلَدِهِ، لِأَنَّ خَاطِرَهُ لَيْسَ بِوَاجِبِ الْعِصْمَةِ; إِذْ يَجُوزُ عَلَيْهِ الْخَطَأُ بِالِاتِّفَاقِ. وَلَمَّا أَقْدَمَ الْخَضِرُ عَلَى قَتْلِ ذَلِكَ الْغُلَامِ، الَّذِي لَمْ يَبْلُغِ الْحُلُمَ، عِلْمًا مِنْهُ بِأَنَّهُ إِذَا بَلَغَ يَكْفُرُ، وَيَحْمِلُ أَبَوَيْهِ عَنِ الْكُفْرِ; لِشِدَّةِ مَحَبَّتِهِمَا لَهُ، فَيُتَابِعَانِهِ عَلَيْهِ، فَفِي قَتْلِهِ مَصْلَحَةٌ عَظِيمَةٌ تَرْبُو عَلَى بَقَاءِ مُهْجَتِهِ; صِيَانَةً لِأَبَوَيْهِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي الْكُفْرِ وَعُقُوبَتِهِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَأَنَّهُ مُؤَيَّدٌ مِنَ اللَّهِ بِعِصْمَتِهِ. وَقَدْ رَأَيْتُ الشَّيْخَ أَبَا الْفَرَجِ ابْنَ الْجَوْزِيِّ طَرَقَ هَذَا الْمَسْلَكَ بِعَيْنِهِ فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى نُبُوَّةِ الْخَضِرِ وَصَحَّحَهُ. وَحَكَى الِاحْتِجَاجَ عَلَيْهِ الرُّمَّانِيُّ أَيْضًا. الرَّابِعُ، أَنَّهُ لَمَّا فَسَّرَ الْخَضِرُ تَأْوِيلَ تِلْكَ الْأَفَاعِيلِ لِمُوسَى، وَوَضَّحَ لَهُ عَنْ حَقِيقَةِ أَمْرِهِ، وَجَلَّى، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ: {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: ٨٢] يَعْنِي: مَا فَعَلَتْهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، بَلْ أُمِرْتُ بِهِ، وَأُوحِيَ إِلَيَّ فِيهِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْوُجُوهُ عَلَى نُبُوَّتِهِ. وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ حُصُولَ وِلَايَتِهِ، بَلْ وَلَا رِسَالَتَهُ، كَمَا قَالَ آخَرُونَ. وَأَمَّا كَوْنُهُ مَلَكًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَغَرِيبٌ جِدًّا. وَإِذَا ثَبَتَتْ نُبُوَّتُهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، لَمْ يَبْقَ لِمَنْ قَالَ بِوِلَايَتِهِ - وَإِنَّ الْوَلِيَّ قَدْ يَطَّلِعُ عَلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>