فَأَخَذَهُ بِيَدِهِ فَأَجْلَسَهُ مَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، فَادَّعَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَخَذَ ضَيْعَةً لَهَا وَاسْتَحْوَذَ عَلَيْهَا، فَتَنَاظَرَا سَاعَةً فَجَعَلَ صَوْتُهُا يَعْلُو عَلَى صَوْتِهِ فَزَجَرَهَا بَعْضُ الْحَاضِرِينَ، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: اسْكُتْ فَإِنَّ الْحَقَّ أَنْطَقَهَا، وَالْبَاطِلَ أَسْكَتَهُ. ثُمَّ حَكَمَ لَهَا بِحَقِّهَا وَأَغْرَمَ لَهَا وَلَدَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَكَتَبَ إِلَى بَعْضِ الْأُمَرَاءِ: لَيْسَ مِنَ الْمُرُوءَةِ أَنْ يَكُونَ آنِيَتُكَ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ، وَغَرِيمُكَ عَارٍ، وَجَارُكَ طَاوٍ.
وَوَقَفَ رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: وَاللَّهِ لَأَقْتُلَنَّكَ. فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، تَأَنَّ عَلَيَّ فَإِنَّ الرِّفْقَ نِصْفُ الْعَفْوِ. فَقَالَ: وَيْلَكَ وَيْحَكَ! قَدْ حَلَفْتُ لَأَقْتُلَنَّكَ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْ تَلْقَ اللَّهَ حَانِثًا خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَلْقَاهُ قَاتِلًا. فَعَفَا عَنْهُ. وَكَانَ يَقُولُ: لَيْتَ أَهْلَ الْجَرَائِمِ يَعْرِفُونَ أَنَّ مَذْهَبِي الْعَفْوُ، حَتَّى يَذْهَبَ الْخَوْفُ عَنْهُمْ وَيَدْخُلَ السُّرُورُ إِلَى قُلُوبِهِمْ، وَرَكِبَ يَوْمًا فِي حَرَّاقَةٍ فَسَمِعَ مَلَّاحًا يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ: تَرَوْنَ هَذَا الْمَأْمُونُ يَنْبُلُ فِي عَيْنِي، وَقَدْ قَتَلَ أَخَاهُ الْأَمِينَ؟ يَقُولُ ذَلِكَ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِمَكَانِ الْمَأْمُونِ فَجَعَلَ الْمَأْمُونُ يَتَبَسَّمُ وَيَقُولُ: كَيْفَ تَرَوْنَ الْحِيلَةَ حَتَّى أَنْبُلَ فِي عَيْنِ هَذَا الرَّجُلِ الْجَلِيلِ؟
وَحَضَرَ عِنْدَ الْمَأْمُونِ هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ لِيَتَغَدَّى عِنْدَهُ، فَلَمَّا رُفِعَتِ الْمَائِدَةُ جَعَلَ هُدْبَةُ يَلْتَقِطُ مَا تَنَاثَرَ مِنْهَا، فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُونُ: أَمَا شَبِعْتَ يَا شَيْخُ؟ فَقَالَ بَلَى،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute