فَكَتَبَ الْمُتَوَكِّلُ إِلَى نَائِبِهِ يَأْمُرُهُ بِرَدْعِهِمْ عَنْ تَعَاطِي مِثْلِ ذَلِكَ وَعَنِ الْمُغَالَاةِ فِي الْبَشَرِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى الْآفَاقِ بِالْمَنْعِ مِنَ الْكَلَامِ، فِي مَسْأَلَةِ الْكَلَامِ وَالْكَفِّ عَنِ الْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَأَظْهَرَ إِكْرَامَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَاسْتَدْعَاهُ مِنْ بَغْدَادَ إِلَيْهِ، فَاجْتَمَعَ بِهِ فَأَكْرَمَهُ، وَأَمَرَ لَهُ بِجَائِزَةٍ سَنِيَّةٍ فَلَمْ يَقْبَلْهَا، وَخَلَعَ عَلَيْهِ خِلْعَةً سَنِيَّةً مِنْ مَلَابِسِهِ، فَاسْتَحْيَا مِنْهُ أَحْمَدُ كَثِيرًا، فَلَبِسَهَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ نَازِلًا فِيهِ، ثُمَّ نَزَعَهَا نَزْعًا عَنِيفًا وَهُوَ يَبْكِي، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
وَجَعَلَ الْمُتَوَكِّلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ يُرْسِلُ إِلَيْهِ مِنْ طَعَامِهِ الْخَاصِّ يَظُنُّ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِنْهُ، وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ لَا يَأْكُلُ لَهُمْ طَعَامًا، بَلْ كَانَ صَائِمًا مُوَاصِلًا يَطْوِي تِلْكَ الْأَيَّامَ كُلَّهَا ; لِأَنَّهُ لَمْ يَتَيَسَّرْ لَهُ شَيْءٌ يَرْتَضِي أَكْلَهُ، وَلَكِنْ كَانَ ابْنَاهُ صَالِحٌ وَعَبْدُ اللَّهِ يَقْبَلَانِ تِلْكَ الْجَوَائِزَ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ أَسْرَعُوا الْأَوْبَةَ إِلَى بَغْدَادَ لَخُشِيَ عَلَى أَحْمَدَ أَنْ يَمُوتَ جُوعًا.
وَارْتَفَعَ شَأْنُ السُّنَّةِ جِدًّا فِي أَيَّامِ الْمُتَوَكِّلِ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ لَا يُوَلِّي أَحَدًا إِلَّا بَعْدَ مَشُورَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَكَانَتْ وِلَايَةُ يَحْيَى بْنِ أَكْثَمَ قَضَاءَ الْقُضَاةِ مَوْضِعَ ابْنِ أَبِي دُؤَادٍ عَنْ مَشُورَتِهِ أَيْضًا، وَقَدْ كَانَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ هَذَا مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَعُلَمَاءِ النَّاسِ، وَمِنَ الْمُعَظِّمِينَ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَاتِّبَاعِ الْأَثَرِ، وَكَانَ قَدْ وَلَّى مِنْ جِهَتِهِ حَيَّانَ بْنَ بِشْرٍ قَضَاءَ الشَّرْقِيَّةِ، وَسَوَّارَ بْنَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute