والذي في البخاري من ذلك قد حذف البخاري أسانيدها عمدًا، ليخرجها عن موضوع الكتاب، وإنما يسوقها في تراجم الأبواب تنبيهًا واستشهادًا واستئناسًا وتفسيرًا لبعض الآيات. وكأنه أراد أن يكون كتابه جامعًا لأبواب الفقه وغير ذلك من المعاني التي قصد جمعه فيها، وقد بينت في كتاب "تغليق التعليق" كثيرًا من الأحاديث التي يعلقها البخاري في الصحيح فيحذف إسنادها أو بعضها، وتوجد موصولة عنده في موضع آخر من تصانيفه التي هي خارج الصحيح. والحاصل من هذا: أن أول من صنف في الصحيح يصدق على مالك باعتبار انتفائه وانتقاده للرجال، فكتابه أصح من الكتب المصنفة في هذا الفن من أهل عصره وما قاربه، كمصنفات سعيد بن أبي عروبة، وحماد بن سلمة، والثوري، وابن إسحاق، ومعمر، وابن جريج، وابن المبارك، وعبد الرزاق، وغيرهم، ولهذا قال الشافعي: "ما بعد كتاب الله عز وجل أصح من كتاب مالك". فكتابه صحيح عنده وعند من تبعه ممن يحتج بالمرسل والموقوف. وأما أول من صنف الصحيح المعتبر عند أئمة الحديث الموصوف بالاتصال وغير ذلك من الأوصاف؛ فاول مَن جمعه البخاريُّ ثم مسلمٌ، كما جزم به ابن الصلاح". (١) حمل ابن كثير في "البداية والنهاية" (١١/ ٣٣) تفضيله على تقديمه عليه في كونه ليس فيه شيء من التعليقات إلا القليل، وأنه يسوق الأحاديث بتمامها في موضع واحد، ولا يقطعها كتقطيع البخاري لها في الأبواب، فهذا القدر لا يوازي قوّة أسانيد البخاري واختياره في "الصحيح" لها. =