ثم إن هؤلاء الصحابة هم من الجيل والقرن الذي بلغ الغاية في الفصاحة، والبيان، والقدرة على وصف أدق الأشياء غموضًا وخفاءً بأبلغ وأوجز الألفاظ، ولهذا تحدَّاهم الله عزَّ وجلَّ بالقرآن العظيم، فهم إذن مأمونون على رواية ما صدر عنه - صلى الله عليه وسلم - من أفعال وتقريرات بألفاظ مطابقة مؤدية للمعاني التي أرادوا التعبير عنها، وروايتها بحسب مشاهداتهم للأحداث. وبهذا تضيق دائرة رواية الحديث بالمعنى فيما رواه الصحابة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لتقتصر فقط على أحاديثه القولية، ثم هذه أيضًا قد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكريره وإعادته للفظ ثلاثًا حتى يحفظ أصحابه، مع ما أوتوا من جوامع الكلم، وربما أعاد الكلام في مواطن عديدة، أو سنوات متفرقة بألفاظ متقاربة والمعنى واحد، فيروي كل صحابي اللفظ الذي سمعه، فليس اختلاف ألفاظهم في الحديث القولي دليلًا على روايتهم له بالمعنى، وإنما هكذا سمعه كل واحد منهم بحسب تعدد المجالس، ولعل منها حديث "من كذب عليَّ" وحديث "نضر الله" لكثرة من رواهما من الصحابة، فلا يبعد أن يكون سماعهم في مجالس متعددة أو سنوات متفرقة. ثم إذا أضيف ما علم من تحرِّي الصحابة في حفظ كلامه - صلى الله عليه وسلم -، حتى توقف كثير منهم عن الرواية خوف نقص كلمة أو زيادتها، مع قدرتهم على استبدالها وروايتها بالمعنى وحرصهم على روايته بلفظه، وكان منهم من كان يكتب كل ما يتلفظ به النبي - صلى الله عليه وسلم - كعبد الله بن عمرو، ومنهم من دعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحفظ كأبي هريرة، مع ما علم عنهم من نقد وتصحيح لما كان قد يقع في رواية بعضهم من الخطأ والغلط؛ فإنه بذلك تضيق دائرة رواية=