وهكذا نجد أن رواية الصحابة - رضي الله عنهم - تكاد تخلو من الرواية بالمعنى، أما الأحاديث الفعلية والتقريرية والوصفية؛ فلأنها لا تدخل في الموضوع أصلًا لأنهم هم الذين تلفظوا وعبروا عن مشاهدتهم لأحوال وأفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ابتداءً. وأما القولية؛ فلما سبق بيانه من حال النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلفظه، وإعادته لكلامه، وإيجازه وتأنِّيه، ومن حال أصحابه في حرصهم على حفظه وورعهم عند أدائه، وروايته. بل لقد كان التدوين الرسمي العام بأمر عمر بن عبد العزيز في زمن التابعين. ثم إذا علمنا أن طبقة أتباع التابعين قد دونوا السنة في بطون الكتب، كمالك في "الموطأ" وسفيان الثوري في "جامعه"، وحماد بن سلمة في مصنفاته، وعبد الملك بن جُرَيْج، وابن أبي عروبة، وغيرهم من الأئمة الحفاظ من أهل هذه الطبقة، فإنه لا يتبقى عندنا فيها رواية الحديث سوى طبقة التابعين، فهذه الطبقة هي التي وقع فيها رواية الحديث بالمعنى بصورة أوضح، ومع ذلك فإن أهل هذه الطبقة كان منهم مَنْ كتب ودوَّن الحديث في صحف كما فعل هَمَّام بن مُنَبِّهٍ، فإن "صحيفته" كان يكتبها من لفظ أبي هريرة وهو من خاصة تلاميذه. وكان الزهري له صحف كتب فيها الحديث، ومنهم من كتب من صحيفة عبد الله بن عمرو بن العاص، وكان عمرو بن شعيب يحدث بهذه الصحيفة، وغيرهم كثير من أصحاب الصحف عن آبائهم أو شيوخهم. كما أن من أهل هذه الطبقة الحفاظ الأثبات، الذين اشتهروا بالحفظ والإتقان والتثبُّت، حتى أن أحدهم ربما سئل عن الحديث بعد سنوات فيجيء به كما حدَّث به أول مرة، لا يخرم منه حرفًا، وعلى مثل هؤلاء دارت الرواية في هذا العصر، ومنهم من لا يرى الرواية بالمعنى ويشدد في ذلك. هذا وليس كل من كان يرى الرواية بالمعنى كان يحدث على المعنى في كل حديث يرويه، بل إن عامتهم من الحفاظ الأثبات الذين بين ضابط لكتابه، أو ضابط لحفظه، وإنما رأوا أن الرواية بالمعنى جائزة بحسب الأدلة التي =