للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الحرية والإباء]

إن مما يتفق عليه العقلاء أنه لا سبيل للسعادة في الحياة إلا إذا عاش فيها الإنسان حراً طليقاً يسيطر على جسمه وعقله ونفسه ووجدانه وفكره, وقد قال بعض الأدباء: إن الحرية شمس يجب أن تشرق في كل نفس, فمن عاش محروماً منها عاش في ظلمة حالكة, يتصل أولها بظلمة الرحم وأخرها بظلمة القبر. (١)

وطالما تغنا بالحرية العرب الفصحاء في أشعارهم, ويرحم الله أبا القاسم الشابي حيث يقول:

خُلقتَ طَليقاً كَطَيفِ النَّسيمِ ... وحُرًّا كَنُورِ الضُّحى في سَمَاهْ

تُغَرِّدُ كالطَّيرِ أَيْنَ اندفعتَ ... وتشدو بما شاءَ وَحْيُ الإِلهْ

وتَمْرَحُ بَيْنَ وُرودِ الصَّباحِ ... وتنعَمُ بالنُّورِ أَنَّى تَرَاهْ

وتَمْشي كما شِئْتَ بَيْنَ المروجِ ... وتَقْطُفُ وَرْدَ الرُّبى في رُبَاهْ

وقال سحيم الحساس:

إِن كُنتُ عَبداً فَنفسي حُرَّةٌ كَرَماً ... أَو أَسوَدَ اللَونِ إِنّي أَبيَضُ الخُلُقِ

وقال:

وترانا يوم الكريهة أحراراً ... وفي السلم للغواني عبيدا

وعليه بنا الصوفية في اصطلاحهم في إطلاق اسم الحر على من خلع عن نفسه إمارة الشهوات ومزق سلطانها, قال الشاعر:

أتمنى على الزمان محالاً ... أن ترى مقلتاي طلعة حر

أما شيخ الإسلام ابن تيمية فهو يرى بأن الحرية: العبودية الخالصة لله تعالى تجمع بين كمال الحب وكمال الذل (٢) .

ومقتضى هذا أن الناس جميعاً خلقوا أحراراً لا فرق بين أسود أو أبيض أو أحمر أو أصفر, فيجب أن لا يدينوا بالعبودية إلا لله الواحد الأحد, ولا قيد على حرية الإنسان إلا ما قيده القرآن والسنة النبوية لأمر أو نهي يستلزم قيد هذه الحرية, بعدم استحلال الخبائث, واستنهاض الرذائل, واستباحة الفواحش والتطاول على الحرمات، والعدوان على الحقوق واستغلال الناس وأكل أموالهم بالباطل أو استباحة أعراضهم، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يفقهون ذلك بالفطرة ويأخذونه من الكتاب والسنة فهذا عمر بن الخطاب (٣) رضوان الله عليه يقول- في قصة مشهورة-: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟.

وهذا الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع شدة رغبته في دخول الناس في الإسلام، حتى كاد أن يهلك نفسه؛ لم يُكره أحداً على الدخول


(١) - مصطفى المنفلوطي في كتابه النظرات ج١ص٩٥ , الناشر دار ومكتبة الهلال مصر الطبعة الأولى ٢٠٠٠م.
(٢) - تعارض العقل والنقل ص٦٢.
(٣) - أمير المؤمنين وثاني الخلفاء الراشدين: عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي القرشي العدوي أبو حفص, ولد بعد الفيل بثلاث عشرة سنة, وكان من أشرف قريش وإليه كانت السفارة في الجاهلية وذلك أن قريشا كانوا إذا وقع بينهم حرب أو بينهم وبين غيرهم بعثوه سفيرا وإن نافرهم منافر أو فاخرهم مفاخر رضوا به بعثوه منافرا ومفاخرا, أسلم في السنة السادسة للهجرة وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جميع المشاهد, وكان أشد الناس على الكفار, ولي الخلافة بعد أمير المؤمنين أبو بكر الصديق رضي الله عنه.

<<  <  ج: ص:  >  >>