ولهذا رأينا الشارع الحكيم يراعي ضرورة المضطر إلى الميتة فيبيح له الأكل منها، ثم يراعي الحاجة العامة فيبيح -مثلًا- بيعَ السَّلَم والعرايا. . . ونحو ذلك، والأكل من الميتة أمرٌ شخصي مؤقت، والتعامل في السَّلَم أمرٌ عام في المجتمع ودائم.
فالشارع الحكيم له قصد في أن تتعدى إباحة الفعل إلى غير محتاج إليه؛ لما له من الأثر النافع للعموم، كما هو في سائر الرخص في المعاملات؛ لما يترتب عليه من رواج الأسواق وتحصيل الأقوات، وتوفير الأعمال والأشغال.
ومن الخطأ البين: الخلطُ بين الحاجات، والضرورات لدى الأفراد والمجتمعات، ومن المعلوم أن الحاجة في حق الكافة تنزل منزلة الضرورة في حق الفرد، يقول الجويني -وهو يتناول موضوع الكسب الحرام فيما لو عمَّ الزمانَ وأهلَه، فلم يوجد إلى طلب الحلال سبيل-:
"فلهم أن يأخذوا منه -أي: الحرام- قدر الحاجة، ولا يشترط الضرورة التي ترعاها في إحلال الميتة في حقوق آحاد الناس، بل الحاجة في حق الناس كافة تنزل منزلة الضرورة في حق الواحد المضطر، فإن الواحد المضطر لو صَابَرَ ضرورتَهُ ولم يتعاطَ الميتة لهلك، ولو صابر الناس حاجاتهم وتعدوها إلى الضرورة لهلك الناس قاطبةً، ففي تعدي الكافة الحاجة من خوف الهلاك ما في تعدي الضرورة في حق الآحاد"(١)؛ إذ لا يراعى فيما يعمُّ الكافة الضرورة، بل يُكْتَفَى بحاجة ظاهرة.
كما تنبغي مراعاة الفروق بين أحكام يعود تفويتها بالضرر على المجتمع في مجمله، وبين الأحكام التي يعود تفويتها بالضرر على شخص المسلم في خاصة نفسه، ودينه