وإذا كنا بصدد وضع تعريف اصطلاحي للأقليات عند فقهاء المسلمين في العصر الحديث، فإننا يتعين علينا أن ننطلق من الإسلام ذاته، وموقفه من الآخر، وهذا الموقف لا يقوم على نفي الآخر أو ظلمه أو قهره.
فالبشرية كلها قد خلقها الله تعالى من نفس واحدة، ثم شاء لها التنوع والاختلاف، إلى ذكران وإناث، وشعوب وقبائل، وألسنة ولغات وقوميات، وألوان وأجناس، ومناهج وثقافات وحضارات، وأعراف وتقاليد وعادات، في إطار جامعٍ هو الإنسانية الواحدة، ونفس المنهاج، قد حكم الرؤية الإسلامية في النظر إلى الأمة ورعية الدولة، فجامع الأمة هو الرابط الذي يظلل التنوع والاختلاف في الشعوب والقبائل، وفي الألسنة واللغات والقوميات، وفي الطبقات الاجتماعية، وفي الأقاليم والأوطان، وفي العادات والتقاليد والأعراف -أي: الثقافات الفرعية- كل هذا التنوع الذي هو سنة من سنن الله التي لا تبديل لها ولا تحويل؛ يعيش الناس جميعًا في ظلال جوامع الأمة الواحدة، والحضارة الواحدة، وفي إطار دار الإسلام، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}[النساء: ١]، {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}[المائدة: ٤٨] أي: ملة واحدة {وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}[المائدة: ٤٨]، {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ}[الروم: ٢٢].
فكل هذه الأنواع من التمايزات هي القاعدة المضطردة، والإعمال لسنة الله تعالى في كل عوالم الخلق، ومن ثم فلا شبهة لوجود أية ظلال سلبية تنشأ بسبب أي تنوع أو اختلاف من هذه التمايزات، وبصرف النظر عن الأعداد التي ترتبط بأي لون من ألوان هذا الاختلاف، فهذه التمايزات إما أنها مؤسسة على صفات لصيقة، هي من صنع الله،