الْفَرَزْدَقُ وَكَانَ حَاضِرًا: أَنَا أَعْرِفُهُ. فَقَالُوا: وَمَنْ هُوَ؟ فَأَنْشَأَ الْفَرَزْدَقُ يَقُولُ:
هَذَا الَّذِي تَعْرِفُ الْبَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ ... وَالْبَيْتُ يَعْرِفُهُ وَالْحِلُّ وَالْحَرَمُ
هَذَا ابْنُ خَيْرِ عِبَادِ اللَّهِ كُلِّهِمُ ... هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ الْعَلَمُ
إِذَا رَأَتْهُ قُرَيْشٌ قَالَ قَائِلُهَا ... إِلَى مَكَارِمِ هَذَا يَنْتَهِي الْكَرَمُ
يُنْمَى إِلَى ذُرْوَةِ الْعِزِّ الَّتِي قَصُرَتْ ... عَنْ نَيْلِهَا عَرَبُ الْإِسْلَامِ وَالْعَجَمُ
يَكَادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَانَ رَاحَتِهِ ... رُكْنُ الْحَطِيمِ إِذَا مَا جَاءَ يَسْتَلِمُ
يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَى مِنْ مَهَابَتِهِ ... فَمَا يُكَلَّمُ إِلَّا حِينَ يَبْتَسِمُ
بِكَفِّهِ خَيْزُرَانٌ رِيحُهَا عَبِقٌ ... مِنْ كَفِّ أَرْوَعَ فِي عِرْنِينِهِ شَمَمُ
مُشْتَقَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ نَبْعَتُهُ ... طَابَتْ عَنَاصِرُهَا وَالْخِيمُ وَالشِّيَمُ
يَنْجَابُ نُورُ الْهُدَى مِنْ نُورِ غُرَّتِهِ ... كَالشَّمْسِ يَنْجَابُ عَنْ إِشْرَاقِهَا الْقَتَمُ
حَمَّالُ أَثْقَالِ أَقْوَامٍ إِذَا فُدِحُوَا ... حُلْوُ الشَّمَائِلِ تَحْلُو عِنْدَهُ نَعَمُ
هَذَا ابْنُ فَاطِمَةٍ إِنْ كُنْتَ جَاهِلَهُ ... بِجَدِّهِ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ قَدْ خُتِمُوا
اللَّهُ فَضَّلَهُ قِدْمًا وَشَرَّفَهُ ... جَرَى بِذَاكَ لَهُ فِي لَوْحِهِ الْقَلَمُ
مَنْ جَدُّهُ دَانَ فَضْلُ الْأَنْبِيَاءِ لَهُ ... وَفَضْلُ أُمَّتِهِ دَانَتْ لَهَا الْأُمَمُ
عَمَّ الْبَرِّيَّةَ بِالْإِحْسَانِ فَانْقَشَعَتْ ... عَنْهَا الْغَيَابَةُ وَالْإِمْلَاقُ وَالظُّلَمُ
كِلْتَا يَدَيْهِ غِيَاثٌ عَمَّ نَفْعُهُمَا ... يَسْتَوْكِفَانِ وَلَا يَعْرُوهُمَا الْعَدَمُ
سَهْلُ الْخَلِيقَةِ لَا تُخْشَى بَوَادِرُهُ ... يَزِينُهُ اثْنَانِ حُسْنُ الْخُلْقِ وَالْكَرَمُ
لَا يُخْلِفُ الْوَعْدَ مَيْمُونٌ نَقِيبَتُهُ ... رَحْبُ الْفِنَاءِ أَرِيبٌ حِينَ يَعْتَزِمُ
مِنْ مَعْشَرٍ حُبُّهُمْ دِينٌ وَبُغْضُهُمُ ... كَفْرٌ وَقُرْبُهُمْ مَنْجَى وَمُعْتَصَمُ
يُسْتَدْفَعُ السُّوءُ وَالْبَلْوَى بِحُبِّهِمُ ... وَيُسْتَرَبُّ بِهِ الْإِحْسَانُ وَالنِّعَمُ
مُقَدَّمٌ بَعْدَ ذِكْرِ اللَّهِ ذِكْرُهُمُ ... فِي كُلِّ حُكْمٍ وَمَخْتُومٌ بِهِ الْكَلِمُ
إِنْ عُدَّ أَهْلُ التُّقَى كَانُوا أَئِمَّتَهُمْ ... أَوْ قِيلَ مَنْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ قِيلَ هُمُ
لَا يَسْتَطِيعُ جَوَادٌ بُعْدَ غَايَتِهِمْ ... وَلَا يُدَانِيهِمُ قَوْمٌ وَإِنْ كَرُمُوا
هُمُ الْغُيُوثُ إِذَا مَا أَزْمَةٌ أَزَمَتْ ... وَالْأُسْدُ أُسْدُ الشَّرَى وَالْبَأْسُ مُحْتَدِمُ
يَأْبَى لَهُمْ أَنْ يَحِلَّ الذَّمُّ سَاحَتَهُمْ ... خِيمٌ كَرِيمٌ وَأَيْدٍ بِالنَّدَى هُضُمُ
لَا يَنْقُصُ الْعُسْرُ بَسْطًا مِنْ أَكُفِّهِمُ ... سِيَّانَ ذَلِكَ إِنْ أَثْرَوْا وَإِنْ عَدِمُوا
أَيُّ الْخَلَائِقِ لَيْسَتْ فِي رِقَابِهِمُ ... لِأَوَّلِيَّةِ هَذَا أَوْ لَهُ نِعَمُ
فَلَيْسَ قَوْلُكَ " مَنْ هَذَا؟ " بِضَائِرِهِ ... الْعُرْبُ تَعْرِفُ مَنْ أَنْكَرْتَ وَالْعَجَمُ
مَنْ يَعْرِفِ اللَّهَ يَعْرِفْ أَوَّلِيَّةَ ذَا ... فَالدِّينُ مِنْ بَيْتِ هَذَا نَالَهُ الْأُمَمُ