وذكر أنه كتب إلى أصحابنا من دمشق، في ابتداء كتاب، يعاتبني على ترك إنفاذ كتاب دلائل النبوة لأحمد البيهقي وغيره من الكتب، وقد لزم فيها ما لا يلزم:
ما خلت حاجاتي إِليك وإِن نأَتْ داري مُضاعَهْ
وأَراك قد أهملتها ... وأَضعتها كل الإِضاعه
أَنسيتَ ثَدْيَ مودّةٍ ... بيني وبينك وارتضاعه
ولقد عهِدتُك في الوفا ... ءِ أَخا تميم لا قُضاعه
وأَراك بكراً ما تخا ... ف على الصّداقة والبضاعه
فلما وصلت إلى الشام، وأقمت بدمشق، ترددت إليه، ورأيته قد صنف تاريخ دمشق. وذكر أنه في سبعمائة كراسة، كل كراسة عشرون ورقة. وسمعت بعضه منه. وأورد من شعره فيه.
ودخل إلي بكرة يوم الأربعاء تاسع عشر شهر ربيع الأول سنة إحدى وسبعين فعرضت عليه ما أورده السمعاني في حقه، والآن أنت قد سمعته مني. ووعدني أن يكتب لي من شعره ما أورده في هذا الكتاب.
وهو الحافظ الذي قد تفرد بعلم الحديث، والاعتقاد الصحيح، المنزه عن التشبيه، المحلى بالتنزيه، المتوحد بالتوحيد، المظهر شعار الأشعري بالحد والحديد، والجد الجديد، والأيد الشديد.
ومما أنشدنيه لنفسه، وقد أعفى الملك نور الدين قدس الله روحه، أهل دمشق من المطالبة بالخشب، فورد الخبر باستيلاء عسكره على مصر، فكتبه إليه يهنيه، وأملاه علي في الثاني والعشرين من جمادى الأولى سنة أربع وستين وخمسمائة:
لمّا سمحتَ لأَهلِ الشّام بالخشبِ ... عُوّضتَ مصر بما فيها من النَّشَبِ
وإِن بذلتَ لفتح القدس مُحْتَسِباً ... للأَجر، جوزيت خيراً غير محتسَب
والأَجْرُ في ذاك عند الله مرتٌََبٌ ... فيما يُثيب عليه خيرُ مرتقِب
والذّكر بالخير بين الناس تكسِبه ... خيرٌ من الفضّة البيضاء والذهب
ولستَ تُعْذَرُ في تَرك الجهاد وقد ... أَصبحتَ تملِكُ من مصرٍ إِلى حلب
وصاحب المَوْصِل الفيحاء مُمْتَثِلٌ ... لما تُريد فبادرْ فَجْأَة النُّوَب
فأَحزَمُ الناس من قوّى عزيمتَه ... حتى ينالَ بها العالي من القُرَب
فالجَدّ والجِدّ مقرونان في قَرَنٍ ... والحزم في العزم والإِدْراك في الطلب
وطهِّرِ المسجدَ الأَقصى وحَوْزَنَهُ ... من النَّجاسات والإشراك والصُّلُب
عساك تظفر في الدُّنْيا بحسن ثَنا ... وفي القِيامة تلقى حُسنَ مُنقَلَب
وتوفي رحمه الله بدمشق، بين العشائين، ليلة الأحد حادي عشر رجب سنة إحدى وسبعين، ودفن بمقبرة باب الصغير. وصلى عليه الملك الناصر صلاح الدين في ميدان الحصا، وكان الغيث قد احتبس في هذه السنة، فدر وسح عند ارتفاع نعشه، فكأن السماء بكت عليه بدمع وبله وطشه، بلت الأرض برشه. ورثاه جماعة من الفضلاء.
أنشدني فتيان بن علي الأسدي الدمشقي المعلم الأديب لنفسه. وهذه القصيدة مشتملة على حقيقته وطريقته ووفائه ووفاته:
أَيُّ ركنٍ وَهى من العلماء ... أَيُّ نجمٍ هوى من العَلْياءِ
إِنّ رُزْءَ الإِسلام بالحافظ العا ... لم أَمسى من أَعظم الأَرزاء
أَقفرتْ بعده رُبوعُ الأَحاديث وأَقوتْ معالمُ الأنباء
أَيُّها المبتغى له الدهرَ مِثْلاً ... أَتُرجّي تَعانق العَنْقاء
كان ناديه كالرّياض إِذا ما ... ضحك النَّوْر عن بُكا الأَنْداء
كان حِبْراً يَقْري مسامعنا من ... أَسود الحِبْر أَبيضَ الآلاء
كان من أَعلم الأَنام بأَسما ... ءِ رجال الحديث والعلماء
فهي من بعدُ في المَهارق كالأَفْعال إِذا عُرِّيَتْ من الأَسماء
كان من وَصْمة التغيّر والتَصحيف أَمْناً لخابط العَشْواء
كان في دينه قويّاً قويماً ... ثابتاص في الضرّاء والسرّاء
كان علاّمةً ونسّابةً لم ... يخْفَ عنه شيءٌ من الأَشياء
يا لَها من مُصيبةٍ صمّاءِ ... لم يَحِدْ سهمها عن الإِصماء