ذكر أنه كان فقيه الأندلس وامامها، والذي جلى بنور علمه ظلامها، وأنه رحل إلى المشرق فأشرقت أنوار أقباسه، وأحيا ليالي الطلب بنعي نعاسه، وأنفق أنفاسه في العلم حتى اقتبس من أنفاسه، وعاد إلى الأندلس فاستقر من العزة في الأعين والأنفس، وصار إلى المنعوت بالمقتدر، فراش جناح نجاحه في الورد والصدر، وذكر أن نظمه موقوف، على ذاته غير مصروف، إلى رفث القول وبذاذاته، وله في الزهد:
إذا كنت أعلم مستيقنا ... بأن جميع حياتي كساعه
فلم لا أكون ضنينا بها ... وأجعلها في صلاح وطاعه
وله يرثي ولديه وقد ماتا غريبين، وذويا قضيبين:
رعى الله قبرين استكانا ببلدة ... هما أسكناها في السواد من القلب
لئن غيبا عن ناظري وتبوّءا ... فؤادي لقد زاد التباعد في القرب
يقر بعيني أن أزور ثراكما ... وألزق مكنون الترائب بالترب
وأبَكي وأبُكي ساكنيها لعلنّي ... سأنجد من صحب وأسعد من سحب
فما ساعدت ورق الحمام أخا أسى ... ولا روّحت ريح الصبا عن أخي كرب
ولا استعذبت عيناي بعدكما كرى ... ولا ظمئت نفسي إلى البارد العذب
أحنّ ويثني اليأس نفسي عن الأسى ... كما اضطر محمول على المركب الصعب
[الوزير الفقيه أبو مروان ابن سراج]
ذكر أنه درس علوما درست معالمها، ودعا للرفع آدابا تداعت دعائمها، فتح أقفال المبهمات، وبين أغفال المشكلات، وشرح وأوضح، ونصح مناضليه وفصح، ولما طوي بساط عمره طويت المعارف، وتنقص فضلها الوافر وتقلص لها الوارف، ووصفه بالضجر عند السؤال فما يكاد يجيب، والمستفيد منه يكاد لغيظه عليه يخيب، وأورد من شعره قوله في مدح المظفر ابن جهور:
أمّا هواك ففي أعزّ مكان ... كم صارم من دونه وسنان
وبني حروب لم تزل تغذوهم ... حتى الفطام ثديها بلبان
في كلّ أرض يضربون قبابهم ... لا يمنعون تخيّر الأوطان
أو ما ترى أوتادها قصد القنا ... وحبالهنّ ذوائب الفرسان
عجبا لأسد في القباب تكفّلت ... برعاية الظبيات والغزلان
ولقد سريت وما صحبت على السرى ... غير النجوم إرادة الكتمان
في ليلة نظرت إليّ نجومها ... ومقحم الغمرات غير جبان
قالت فتاتهم وقد نبهتها ... والليل ملقي كلكل وجران
كيف اجترأت على تجاوز من ترى ... من نائم حولي ومن يقظان
أو لست إنسانا وما إن تنتهي ... هذي نهاية جرأة الإنسان
فأجبتها: أنّ ابْنَ جَهْوَرٍ الرّضى ... منع المخاوف أن تحل جناني
ومنها في العتاب والاستماحة:
أتعود دلوي من بحور سماحكم ... صفرا وليست رئة الأشطان
ويكون ربعي مستبينا جدبة ... حتى أهيم بنجعة البلدان
قسي بمن ينأى برفع مكانه ... بنديّك العالي وخفض مكاني
أمن السوية أن تحلوا بالربى ... من أرضه وأحل بالغيطان
إن ترخصوا خطري فكم مغل له ... يستام فيه بأرفع الأثمان
[الوزير الفقيه أبو عبيد البكري]
ذكر أنه رأى هذا الفقيه في سن ابن محكم، وقد فاق كل متكلم، وهو غلام ما أبدر قمره، ولا أينع ثمره، ولا تفتق لعذاره زهره، وقرظه بأنه كان حلي الزمان العاطل، وصيت الدهر الخامل، وقطب مدار الأدب في أفلاكه، وواحد المغرب ومقرب أملاكه، وكانوا يتهادونه تهادي العيون للوسن، والأسماع للصوت الحسن، غير أن شربه المدام مدام، ولم يزل منه له من غير ندامة ندام، قد صار هجيره، لا يهجره أصيله وهجيره، وله في البيان مصنفات، بفرائد الحكم مشنفات، قال أبو نصر صاحب قلائد العقيان إنه رآه وقد جرى ذكر ابن مقلة وخطه فقال:
خط ابن مقلة من أرعاه مقلته ... ودت جوارحه لو أصبحت مقلا
فالدر يصفر لاستحسانه حسدا ... والورد يحمر من إبداعه خجلا
وله فصل من كتاب راجع به الفقيه أبا الحسن ابن دري: