جاءتْكَ تسري إليك حاملةً ... هَديّةً أَصْغَرت لها عَبْسُ
الرئيس أبو الحسن علي بن مُسْهِر المَوصلي
عاش إلى زماننا هذا، ولما كنت بالموصل في سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة صادفته شيخاً أناف على التسعين وقال علم الشاتاني: توفي ابن مُسهر سنة ست وأربعين. أبو عُذرة النظم وابن بَجْدَتِه، ومُفتَرِع عذارى الكلام وفارس نجدته، وفارع مَراقب البيان وراقي مراقيه، وإنسان طرف الفضل ومقلة مآقيه، ونافث سحر البلاغة وراقيه، أعرق وأشأم، وأنجد وأتْهم، فهو السائر المقيم، كأنما تنسّم رقّته النسيم، وسرق حُسنه السّرَق، وغبط وضوح معانيه الفلق، وكأنما ألفاظه مدامة تُعَلُّ بماء المُزن، ومعانيه سُلافةٌ فيها جلاء الحُسن، أصفى من دَرِّ السحاب، وأجلى من دُرِّ السِّخاب، وأضفى من بُرد الشباب، وأحلى من برد الشراب، فابن مُسهرٍ مُسهرُ المعاصرين حسدا، ومميت القاصرين عن شأوه كمدا، قرأت في مجموع لأبي الفضل بن الخازن، أنشدني ابن مُسهر لنفسه:
رِدُوا ترابك دَمْعِي فهي غُدرانُ ... ونَكِّبوا زَفَرَاتي فهي نيرانُ
وإنْ عَدَتْكُمْ سَواري الحَيِّ فانتجعوا ... ما روَّضَتْ من ثرى الأطلال أجفانُ
بانوا فأرْسلتُ في آثارِهمْ نَفَسَاً ... ترَنَّحَ الأَيْكُ منها وانْثنى البانُ
لم أَدْرِ عَوْجَاءُ مِرْقالٌ بسهم نوىً ... أَصْمَت فؤاديَ أم عَوْجَاء مِرْتانُ
إني لَأَعجبُ من سُمْرٍ مُثَقَّفَةٍ ... جَنَوْا بها شَهْدَ عِزٍّ وهي مُرّانُ
والغِيدُ إنْ تَرْنُ نحوَ السِّرْبِ مائلةً ... قلت اشْرَأَبَّتْ إلى الغِزلانِ
أو تستظِلَّ غصون البان كانِسَةً ... نَقُلْ تفَيَّأَت الأغصانَ أغصانُ
وإن يَنَمْنَ على كُثْبِ النَّقا لعباً ... نَقُلْ توَسَّدَتِ الكُثبانُ كُثْبانُ
يا ذا السياسةِ لو يومَ الرِّهانِ بها ... فَتَكْتَ ما احْتَرَبَتْ عَبْسٌ وذُبْيانُ
والحزمِ لو علمت لِحْيان أَيْسَرَه ... لما نجا ثابِتٌ والموت خَزْيَانُ
والفضلِ لو لعَبيدٍ من بدائعِهِ ... بَدَتْ تلَقّاه بالنَّعْماءِ نُعمانُ
وذا الكتابة لو عبدُ الحميدِ لها ... أودى بمُلك بني العباس مروانُ
على أنّي سمعتُ أن هذه القصيدة مسروقة من غيره. وهي قصيدة طويلة، لها على جمع قصائد فضيلة، قد سارت في الآفاق، وسافرت من خراسان إلى العراق، ولم يقع إليّ منها غير هذه الأبيات، المخصوصة بالإثبات.
وقرأت في مجموع هذين البيتين، إلى ابن مُسهر منسوبين، وهما في عدّة العَين، ونضرةِ اللُّجين، معناهما رقيق، ولفظهما سَلِس بالثناء عليه حَقيق:
أُعاتِبُ فيكِ اليَعْمَلاتِ على السُّرى ... وأسأَلُ عنكِ الريحَ إنْ هيَ هَبَّتِ
وأُمْسك أحناءَ الضلوع على جوىً ... مُقيمٍ وصبرٍ مستحيلٍ مُشَتَّتِ
وقرأت في تاريخ السمعاني: سمعتُ أبا الفتح عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن الأخوّة البغدادي بأصفهان مُذاكرةً يقول: رأيت في المنام كأنّ مُنشِداً يُنشدني هذين البيتين، أحدهما وأعجب من صبري، والآخر وأُطبِق أحناء الضلوع، فلما انتبهت جعلت دأبي البحث عن قائل هذه الأبيات، ومضت عدة سنين، واتفق نزول الرئيس أبي الحسن بن مُسهر الموصلي في ضيافتي، فتجارَينا في بعض الليالي ذكر المنامات وذكرت له حال المنام الذي رأيته وأنشدته البيتين فقال أقسم أنهما لَمِنْ شعري من جملة قطعة، ثم أنشدني لنفسه:
إذا ما لسانُ الدَّمع نَمَّ على الهوى ... فليس بسِرٍّ ما الضلوعُ أجَنَّتِ
فواللهِ ما أدري عَشِيَّةَ وَدَّعتْ ... أناحتْ حَماماتُ اللِّوى أمْ تغنّتِ
وأعجب من صَبري القَلوصَ التي سَرَتْ ... بهَودَجِكِ المَزْمومِ أنّى استَقَلَّتِ
أُعاتِبُ فيكِ اليَعْمَلاتِ على الونى ... وأسألُ عنكِ الريح إن هيَ هبَّتِ