وإذا استنمتُ إلى الكَرَى، مسترفِداً ... رُؤياكُمُ صِلةً من الأَحلامِ،
ناجتنيَ الأحلامُ ضِدَّ نَشِيدَتي ... فتَزِيدُني أَلَماً إلى آلامي
ونَذَرْتُ إِن حُمَّ اللِقاءُ، وأثمرت ... دَوْحُ لمُنى لي منكمُ بمرامِ،
لأُقَطِّعَنَّ على النَّوَى أَمراسَها ... ولأُسقِيَنَّ البَيْنَ كأسَ حِمامِ
وأنشدني لنفسه، وقد عدت إلى واسط في سنة ستين وخمس مئة، في الولاية الوزيرية، فحضر عندي، فعرضت عليه هذه الأبيات التي أثبتها له، فقال: إن كنت تثبت لي شعراً، فاكتب لي هذه القطعة في استزادة الزمان:
يا دهرُ، أَوْجِفْ في صُرُو ... فِك بي وبطشتِك القَوِيَّهْ
واجْلُبْ عليَّ بما استطع ... تَ موافقاً حتمَ القضيَّهْ
أَوْفِضْ سِهامَك راشقاً ... غَرَضَيْ حِفاظي والحَمِيَّهْ
واغمِزْ على عُودي ثِقا ... فَك ما يَلينُ إلى الدَّنِيَّهْ
تأبى الدَّنِيَّةَ لي، إِذا ... كلَّفْتَنِي، نفسٌ أَبِيَّهْ
أتخالُني أَخشى المَنِيَّ ... ةَ؟ كلُّ أوقاتي مَنِيَّهْ
ما عارَ سهمٌ من أذىً ... إلا وخاطريَ الرَّمِيَّهْ
وإذا اتّخذتُك آسِياً، ... آسيت بالأَدْوا الدَّويَّهْ
في كلّ يومٍ، طالع ... لي في خُطوبك من ثَنِيَّهْ
ومجرّد من جيش صَرْ ... فِك، لافحِاً كَمَدِي، سَرِيَّهْ
وجعَلْت قلبي للنَّوا ... ئب، في مقاصده، دَرِيَّهْ
أترى لِمَنْ أسعفت حَتَّ ... ى أستزيدَك في العطيَّهْ
ومن البليَّة أنْ يكو ... نَ عزايَ من نفس البليَّهْ
هذا، وما لَكَ قبلَها ... عندي يَدٌ أبداً سَنِيَّهْ
وغَصَبْتَ من حقّي، وأن ... ت على نِزاعي في البقيَّهْ
ومنها:
فعَلَوْتُ غاربَ وحدتي ... فوجدتُها نِعمَ المَطِيَّهْ
واعتضت عن طمعي بيأ ... سي من مكاسبيَ الزَّرِيَّهْ
ورِكبت ظهرَ الصّبرِ، مُدَّ ... رِعاً جلابيبَ التَّقِيَّهْ
فوجدتُ ذِمَّتَهُ، على ال ... عُقْبَى، من الذِّمَمِ الوَفِيَّهْ
وحمِدتُ فقري فيك، مَعْ ... نفسٍ بعِفَّتها غَنِيَّهْ
وأنشدني لنفسه في سنة ستين وخمس مئة:
قد وَصَّلُوا أَشراكَ حُبِّهِمُ ... وتعرَّضُوا في ذاك لِلتُّهَمِ
ستَرت فُروعُهمُ بُدورَهمُ ... وقد استكنَّ الدُّرّ في العَنَمِ
الدُّرُّ لا يخفى لجوهره ... وكذا البدورُ تُنير في الظُّلَمِ
واستَرْهَفُوا أَسيافَ لَحْظِهِمُ ... وتعمَّدُوا قتلي من القسمِ
فغدا فؤادي يشتكي نظري ... والحربُ بينَهما على قَدَمِ
وأنا الأَخِيذُ بما جنَى بَصَري ... وَيْلاه م نظرٍ، أراق دمي
[الحكيم أبو طاهر بن البرخشي]
الطبيب موفق الدين، أبو طاهر، أحمد، بن محمد، بن البرخشي. فيلسوف العصر في الحكمة والطب. أوحد الزمان بديعه، قد برعت في العلم صناعته وبهر في الكرم صنيعه. كريم الشمائل، ظريف المخايل، متلطف في تطببه، متطرف لكل علم، عارف بكل فن. عزيز النفس عزوفها، لا يخالط إلا الأكابر، ولا يألف إلا الصدور. محله في صدور الصدور، وموضعه في قلوب ذوي الإقبال بالقبول. وهو مع ذاك مأوى الضعفاء، وملجأ الملهوفين. يبر من ماله وجاهه بما يمكنه، ويحسن إلى قاصديه بإفادة ما يملكه وما يحسنه. محبوب إلى كل قلب، محبوٌّ بكل حسنى.
ومن فضائله أنه تندر له أبيات حكمية، هي في ثوب علمه بمنزلة الطراز المذهب.
أنشدني له ب واسط، ليلة الخميس حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة ستين وخمس مئة، وكنا مجتمعين نتذاكر طرف الأشعار، ونتجاذب أطراف المعاني المستحسنة، في غلام ناوله خلالاً:
وناوَلَني مِن كفّه شبهَ خَصْرِه ... ومثلَ محبٍّ ذابَ من طول هجرِهِ