هذا الفاضل لم يقع إليّ من شعره شيء، لكنني أحببت ذكره بإثبات ما قيل فيه، وشهادة ذلك على قدره النّبيه، وإن سمح الدهر الضّنين بعد هذا بشيء من فوائده، اغتنمت إثباته، وجمعت في هذا المؤلّف شتاته، ثم وقع بيدي كتاب ألّفه ابن بشرون الكاتب بصقلية في عصرنا هذا، ووسمه بالمختار في النظم والنثر لأفاضل العصر، وذكر فيه الشيخ أبا الضوء سراجاً، وأوضح من محاسنه الغرّ ومناقبه الزّهر منهاجاً، ووصفه بصحة التصوّر، وصدق التخيّل، وسداد الرأي، وحدة الخاطر، وأنّ شعره بديع الحوك، رفيع السّلك، فمنه أنّ الفقيه عيسى بن عبد المنعم الصقلي كتب إليه يستعير منه كتاباً:
لنا حاج وأنتَ بها مليّ ... ورأيكَ في السّماح بها عليّ
فإنْ وافَتْ فذلك ما ظننّا ... وأشبه أهلهُ الفعلُ الزكيّ
وإن يعتاقُها منعٌ فقُلْ لي ... الى من يُنسَبُ الفعلُ الرضيّ
فأجابه أبو الضوء:
ألا انجابَتْ فضاءَ لنا الخفيّ ... وأعشى الأعينَ القمرُ المُضيّ
وما خابتْ بما شامَت نُفوس ... شفى غُلاتِها جود ورِيّ
من الخبرِ الذي وافى بلِرْماً ... أعيسى المجدُ أم عيسى النّبي
وكيف بدا وما أنْ حان حشْر ... وكل مواتِ هذا الخلْقِ حي
رويدَك رُبّ خوّارٍ ضعيفٍ ... غدا وهو القويّ القَسْوريّ
أعِدْ نظراً وجَلّ بحسنِ ظنٍ ... غبايا الشّكّ يبْدُ لك الجليّ
ألا خُذها وِداداً لا عِناداً ... أجَدّ صفاءَها قلبٌ صفي
وقال في رمد الحبيب، والبيت الأخير تضمين:
قالوا حبيبي أصابه رمَد ... جفا الكرى جفنَه لِما وجَدا
يا ليتني كنتُ دونَه ولهُ ... نفسي فِداء فقلّ ذاك فِدا
مرّ فأبْدى احمرارُ وجنتِه ... من دمِ قلبي هواهُ ما وجَدا
فراعني بهجةً وأدهشني ... فظلتُ أدعوهُ منشِداً غرِدا
يا أرمدَ العينِ قف بساحتِنا ... كيما نُداوي من جفنِك الرّمدا
وقوله من مرثية في ولد رُجار الإفرنجي صاحب صقلية أولها:
بكاء وما سالتْ عيون وأجفانُ ... شجون وما ذابتْ قلوب وأبدانُ
ومنها:
خبا القمرُ الأسْنى فأظلمتِ الدّنا ... ومادَ من العلياء والمجدِ أركانُ
أحينَ استوى في حُسنِه وجلالِه ... وتاهتْ به أطواد عزّ وأوطانُ
تخطّفَه ريبُ المَنون مخاتِلاً ... على غِرّة إنّ المنونَ لخوّانُ
كذلك أعراضُ البُدور يعوقُها ... إذا كمُلتْ من حادث الدّهر نقصانُ
لحُقّ بأن نبكي عليه بأدمُعٍ ... لها في مسيلِ الخدّ درّ ومَرْجانُ
وتُحرَقُ أكباد وتمرضُ أنفُس ... وتعظُم أتراح وتكبُر أشجانُ
وتهتاجُ أحزانٌ وتهمي مدامع ... وتُجمع أمواه غِزار ونيرانُ
تبكّتْ له خيماتُه وقُصورُه ... وناحتْ عليه مرهفاتٌ ومُرّانُ
وعاد صهيلُ الخيلِ في لهواتِه ... حنيناً وعافتْهُنّ لُجم وأرْسانُ
وما ناح وُرْقُ الأيكِ إلا له فلو ... درَتْ لبكتْ قبلَ الحمائم أغصانُ
فيا لك من رُزْءٍ عظيمٍ وحادثٍ ... يعزّ له صبر ويُعوِزُ سُلوانُ
ويا يومَه ما كان أقطعَ هولَهُ ... تشيبُ لمرآهُ المروّعِ وُلْدانُ
كأن منادي البعثِ قام منادياً ... لحشرٍ فهبّ الخلْقُ طُرّاً كما كانوا
وقد ضاق رحبُ الأرضِ بالخلقِ والتقتْ ... جموعهُم مرجاً رجالٌ ونسوانُ
وشُقّتْ قلوبٌ لا جيوب ورجّعتْ ... بلابِلُ وارتجّتْ نفوس وأذهان
وكانوا بلُبْسِ اللهوِ بيضاً حمائماً ... فعادوا وهم في ملبَسِ الحزن غرْبان
أبو عبد الله محمد بن عبد الصمد بن بشير
التنوخي الشاعر