ولا ذاتِ طَوقٍ ما تَمَلُّ هديلَها ... رَقوبٍ إذا لم تذرَفِ الدَّمعَ تَندُبِ
كَوَجدي إذا ما جنَّني الليل وانتفى ... رُقادي وصبري واستمرَّ تكرُّبي
لحا الله دهراً فرَّقتنا صروفُه ... فشَعَّبَ منّا الشَّملَ في كلِّ مَشعَبِ
خُلقتُ على ريبِ الحوادثِ صابراً ... كأني على الأيّام قُنَّةُ مَرْقَب
ولكنني أرجو من الله أنه ... سيُنعم بالي منكمُ بالتَّقرُّب
ووجدت أيضاً في ديوان أبي علي الحسن بن أبي جرادة أنه وصلته من والده رقعة فيها شعر بخط أخيه ومن جملته:
أَمالِكَ ناظري والقلبِ حقّاً ... يقيناً في الدّنُوِّ وفي البِعاد
قنعتُ بأن أراكَ بعَين سَمعي ... على أَنَّ اشتياقي في اتِّقاد
وكنتُ أُطيلُ في الشَّكوى اجتهاداً ... فلم تُغْنِ الإطالة باجتهادي
ولمّا لمْ أَفُزْ ببلوغِ قصدي ... عَدَلتُ إلى اقتصارٍ واقتصاد
فلا تبخلْ عليَّ بفضل طِرْسٍ ... عليه رَقْشُ كفِّك بالمداد
ففيه قوَّةٌ لذِماءِ نفسٍ ... كَدِقِّ الجمر في هابي الرَّماد
فلا برحَتْ تخصُّكَ كلَّ يومٍ ... تحيّاتي وإن شَحَطَتْ بلادي
أَحِنُّ إلى اللِّقاءِ وأنت عندي ... مقيمٌ في السُّويدا والسَّواد
فأجابه عن ذلك بقصيدة منها:
أَطعتُ ولم أكن طوعَ القِيادِ ... وغالبَني الزَّمان على مُرادي
وباعدتُ الأحِبَّةَ بعدَ قربٍ ... وقاربتُ النَّوى بعدَ البِعاد
ومنها:
فبِتُّ كأَنَّني في عَقد عَشْرٍ ... وأفكاري تُطّوِّفُ في البلاد
أَسيرَ صبابةٍ ونجِيَّ شكوى ... وحِلْفَ كآبةٍ وأخا سُهاد
غريبَ الدّار أصحَبُ غيرَ أهلي ... وأُصبحُ ساكناً بسوى بلادي
وما استأْخَرْتُ سُلواناً ولكن ... عَدَتْني عن زيارتِك العوادي
[والده]
عليّ بن أبي جرادة
لم أعرف أنه كان شاعراً، لكنني وجدت في ديوان ولده وردتْ إليه من أبيه أبياتٌ وكانت بغير خطِّه فأوردت منها:
أما اقتنع الدَّهرُ الخَؤون ولا اكْتفى ... بِفُرْقَتِنا حتى أَشَطَّ وأسرَفا
وغادرَ قلبي بالهموم موَكّلاً ... وصيَّره طبعاً له لا تكلُّفا
وخالفَ فيما بينَ عينيَّ والكرى ... وحالف فيما بين جفْنَيَّ والجَفا
وأضرَمَ في الأحشاء نارَ صبابةٍ ... لها لهبٌ لو باشرَ اليمَّ ما انطفى
لئن كان ذا وِتْرٍ لقد بان وِترُهُ ... وإن كان ذا غَمْرٍ لقد فاز واشتفى
وكنتُ على وَعدٍ من الصَّبر صادقٍ ... متى رُمْتُهُ في حادثٍ جادَ بالوفا
فلما تناهى في هواك صبابتي ... تقاضيته فيما عهِدتُ فأخلَفا
ومنها:
فإنْ تُعقِبِ الأَيّامُ قرباً نَلَذُّهُ ... فنُعمى بها مَنَّ الإلهُ وأسعفا
وإن تكنِ الأُخرى فإنِّيَ قائلٌ ... عليكَ سلامٌ ما بدا النَّجمُ أو خفا
وداعُ مُحِبٍّ قد تطاوَلَ عمرُهُ ... وأصبحَ من نَيلِ الرَّجاءِ على شَفا
فكتب ولده في جوابها قطعة منها:
تملَّكني صَرفُ الزَّمان فصرَّفا ... وأنهلَني كأْسَ الهُموم وصرَّفا
وعوَّضني ممَّن أُحِبُّ تأَسُّفا ... وهل ينفعُ المحزونَ أن يتأَسَّفا
ومنها:
خليليَّ شَفَّ الوَجْدُ قلبَ مُتيَّمٍ ... فأصبحَ من نَيلِ الشِّفاء على شَفا
وضاعفتِ الأحزانَ عندي صحيفةٌ ... على أنَّني صيَّرْتُها ليَ مُصحَفا
الفقيه أبو المجد
مَعدان بن كثير بن الحسين البالِسيّ