للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فلما وصلت إلى الشام في سنة اثنتين وستين صادفت أسد الدين مشغولاً بفتح مصر في النوبة الثانية واتفق عوده، ورميم روض أملي من جودٍ جوده، وقد كان شغلني نور الدين نور الله روحه يشغله، ولقيت أسد الدين فغمرني بطوله، وتعرفت إلى صلاح الدين في تلك الأيام، وأهديت له من المدح غر الكلام، وما زلت به خصيصاً، وعلى التقرب إليه حريصاً، حتى سار مع عمه في النوبة الثالثة إلى مصر ففتحها وتملكها، وأجرى على مدار مراده فلكها، ومكثت في الشام بالخدمة النورية، وأنا بإحسانهم مشمول، وفي سلطانهم مقبول، فلما انتهى إليه الملك، واستوى على جودي جوده الفلك، حفظ العهود، وأحفظ الحسود، وفاء إلى الوفاء، وأبى غير الإباء، في إحياء موات الإنشاء؛ وما أشكر إلا أفضال سيدنا القاضي الأجل الفاضل أبي علي عبد الرحيم بن علي بن الحسن، دام بأنواء فواضله، وأنوار فضائله، حسنى القدر وحسن الزمن، فإنني لما عدت إلى دمشق وجدت جماعةً من الحساد، قد نفخوا بحكم غيبتي في ضرم الفساد، وخيلوا للسلطان أموراً، وجاءوا إفكاً وزوراً، وكاد كيدهم يكيد، وأيدهم في التزيد يزيد، فجاء حق الباطل وزهق باطلهم، ودحضت غواياتهم وغوائلهم، وبين للسلطان افتقاره إلى مثلي، واشتهاره بفضلي، فأنا إلى الآن في حمايته، وعنايته وتربيته، لا أعرف غير الفاضل مفضلاً، ولا أرى بعد الله على سواه معولاً، ولا أظن أن في الوجود، مثله في الفضل والمروءة والكرم والعلم والجود.

وإنما ذكرت هذا الفصل في هذا القسم الثالث تنبيهاً على فضل الشام بفضل بني أيوب، المجيرين من الحوادث الكوارث، وكان قصدي لهم في السفر إليه من أكبر البواعث.

وأقدم ذكر فضلاء دمشق، فإنها عين البلاد وحدقتها، وجنتها وحديقتها، ولقد قال نور الدين يوماً: ما أطيب دمشق، ولكني مشتغلٌ بالجهاد عن ملاذها، وراحتي في متاعب المملكة في النفاد، وأنا لا أجد راحة نفاذها، فنظمت له في الأبيات بديهةً:

لَيْسَ في الدنيا جميعاً ... بلدةٌ مثلُ دِمشقِ

ويُسَلِّينَي عنها ... في سبيل اللهِ عِشقي

والتُّقى الأَصْلُ ومَنْ يَتْرُ ... كهُ يَشْقى ويُشْقى

كم رَشيقٍ شاغلٌ عن ... هـ بسهم الغَزْوِ رَشقي

وامْتِشاقُ البَيْض يُغْني ... عنه بالأَقلام مَشْقي

شعر العماد في وصف دمشق

ومدح ملوكها

وقبل أن أشرع في ذكر شعراء الشام فأنا أورد مما قلته في وصف دمشق ومدح ملوكها، ما أنظم في عقود هذه الخريدة وسلوكها.

فمن ذلك قصيدةٌ نظمتها حين فارقتها أتشوقها، وما تمت حتى عدت إليها فوصلتها بمدح الملك الناصر، وهي طويلة جداً أولها:

أجِيرانَ جَيْرُونَ مالي مُجيرُ ... سِوى عَطفُكم فاعِدلوا أو فَجُورُوا

وَمالي سِوى طيفكم زائرٌ ... فلا تمنعوه إذا لمْ تزوروا

يَعِزّ عليَّ بأنَّ الفؤاد ... لديْكُم أسيرٌ وَعنكم أَسيرُ

وَما كنتُ أَعلُم أَني أَعي ... ش بَعْد التفَرّق، إني صَبورُ

ومنها:

إلى ناسَ باناس لي صَبْوَةٌ ... لها الوجدُ داعٍ وَذِكْرى مُثيرُ

يَزيدُ اشتياقي وينمو كما ... يَزيدُ يزَيدُ وَثَوْرَا يَثُورُ

وَمِن بَرَدى بَرْدُ قلبي المَشُوق ... فها أنا مِن حَرِّه مُسْتَجيرُ

وَبالمْرَجْ مَرْجُوُّ عَيْشي الذي ... على ذكره العذب عَيْشي مَريرُ

نأَى بيَ عنكم عَدُوٌّ لَدودٌ ... وَدَهْرٌ خَؤون وَحظٌّ عَثورُ

فَقَدْتكُم ففقدتُ الحياة ... وَيَوْم اللقاء يكون النُّشُورُ

أيا راكبَ النِّضْو يُنْضي الرِّكابَ ... تَسيُر وَخطب سُراهُ يَسيرُ

يَؤُمُّ دمشقَ وَمِنْ دونِها ... تُجاب سُهولُ الفَلا وَالوُعُورُ

وَجِلَّقُ مَقْصِدُه المُسْتَجارُ ... لقد سَعِد القاصِد المُسْتجيرُ

إذا ما بَلَغْتَ فبلِّغْهُمُ ... سلاماً تأَرَّجَ منه العبيرُ

<<  <  ج: ص:  >  >>