وسيأتي ذكر جده الأمير الأكبر مفردا، أمير العصابة، كثير الإصابة، سيد بني منقذ، ذو بأس مردٍ وندىً منقذ، كبير آل مقلد، لم يثن أحد جيده من عارفته غير مقلد، وهذه شيمته، مذ فارقته مشيمته، ونيطت به تميمته، فارس الخيل فارس الخير، طاهر الذيل عالي الطير، سمي جده، ووارث جده، شيزريٌ ما أحد بشيٍ زرى عليه، بل كل لسانٍ ثاني الثناء إليه، كنانيٌ ملأ بالأدب كنانته، وشفع بعلمه عفافه وديانته.
ورد بغداد حاجاً بعد العشرين وآب، وأقام بها فصلي تشرين وآب، وعاد إلى بلده وأقام ولم يرمه، وساعده القدر بما رامه وما لم يرمه، فشعره كالشعرى علوا، ونثره كالنثرة سموا، ذكره السمعاني في تاريخه فقال: أنشدني أبو الحجاج يوسف بن مقلد التنوخي الدمشقي الجماهيري، أنشدني الأمير أبو الحسن بن مرشد بن منقذ لنفسه ببغداد:
ودَّعْتُ صَبْري ودمعي يوم فُرْقَتِكم ... وما علمتُ بأَنّ الدَّمع يُدَّخَرُ
وضَلَّ قلبيَ عَنْ صَدْري فُعْدتُ بلا ... قلبٍ فيا وَيْح ما آتي وما أَذَرُ
ولو علمتُ ذَخَرْتُ الدَّمْع مُبْتَغِياً ... إِطفاء نارٍ بقلبي منك تَسْتَعِرُ
وقال: سمعت أبا الحجاج يقول: سمعت الأمير علي بن مرشدٍ يقول: سمعت دراجاً يصيح بدرب الحبيب، فعملت فيه هذه الأبيات فأنشدنيها:
يا طائراً لعبتْ أَيدي الفِراق به ... مثلي فأَصبحَ ذا هّمٍ وذا حَزَنِ
داني الأسى نازحَ الَأوطان مُغْترِباً ... عن الأحبّة مَصْفُوداً عن الوطن
بلا نديمٍ ولا جارٍ يُسَرُّ به ... ولا حَميمٍ ولا دارٍ ولا سَكَن
لكنْ نطَقتَ فزال الهمُّ عنك ولي ... همٌّ يُقَلْقِلُ أَحشائي ويُخْرِسُني
وكلُّ مَنْ باح بالشَّكْوى استراح ومَنْ ... أَخفى الجوى نَثَّ عنه شاهِدُ البَدَن
أَرَّقْتَ عيني بِنَوْحٍ لستُ أَفهمُه ... مَعْ ما بقلبَي مِنْ وَجدٍ يُؤَرِّقني
وما بَكَيْتَ ولي دمعٌ غواربُه ... إِذا ارْتَمَتْ منه لم تَنْشَقَّ بالسُّفُن
وقال: حدثني أبو الحجاج، حدثني الأمير أبو الحسن بن مرشد، أنه كتب إلى صديقٍ له:
ما فُهتُ مع مُتَحِّدثٍ مُتشاغِلاً ... إلاّ رأَيتُك خاطِراً في خاطري
ولو استطعتُ لزُرتُ أَرضَك ماشياً ... بسواد قلبي أَو بأَسودِ ناظري
وله كتب بها إلى أخيه مؤيد الدولة أسامة وهو بالموصل:
أَلا هل لمخزونٍ تذكَّر إِلْفَهُ ... فَحَنَّ وأَبدى وَجْدَه مَنْ يُعينُهُ
وعَيْشاً مضى بالرَّغْم إِذ نحنُ جِيرةٌ ... تَرِفُّ على رَوْض الوِصال غُصونُه
لَدى منزلٍ كان السرورُ قرينَكم ... به فتولَّى إِذ تولَّى قرينُه
فلو أَعْشَبتْ مِنْ فَيْض دمعي مُحولُه ... لما رَضِيَتْ عن دمع عيني جُفونُه
وأنشدني له ابن أخيه الأمير عضد الدولة مرهف:
لأَشْكُرَنَّ النوى والعِيسَ إِذ قَصَدتْ ... بي مَعْدِن الجُودِ والِإحسان والكرَمِ
فسِرتُ في وطني إِذ سِرْتُ عن وطني ... فمَنْ رأَى صِحَّةً جاءتْ من السَّقَم
وقد ندمتُ على عُمرٍ مضى أَسفاً ... إِذ لم أَكُنْ لك جاراً منه في القِدَم
فاسلم ولا زلتَ محروسَ العُلى أبداً ... ما لاحتِ الشُّهْب في داجٍ من الظُّلَم
[الأمير عز الدولة سديد الملك]
أبو الحسن علي بن مقلد بن منقذ، من الطبقة الأولى، جد الجماعة، موفور الطاعة، أحكم آساس مجده وشادها، وفضل أمراء ديار بكرٍ والشام وسادها، ذو المجد الباذخ، والجد الشامخ، والمحتد الراسخ، والفطنة واللسن، والمنظر الحسن، والنظم الذي هو ألذ عند المسهد من لذيذ الوسن، وهو من جلالته في النفوس، ومنزلته عند الرئيس والمرؤوس، ممدوح فحول الشعراء، ومنهم ابن حيوس، ولابن حيوس فيه من قصيدة طويلة، اقتصرت منها على أبيات قليلةٍ، كتبها إليه من طرابلس إلى ثغر حلب، مطلعها:
أَمّا الفِراقُ فقد عاصَيْتُه فأَبى ... وطالتِ الحربُ إلّا أَنَّه غَلَبا