سقى الله قبراً جاورَ المزنَ من أَسىً ... على من حَوَاهُ دمعُ كلِّ أديبِ
فأوفتْ له حزناً كرامُ معاشرٍ ... بشقِّ قلوبٍ لا بشقِّ جُيُوب
وقَلَّ على ماضي الضريبة، نُزِّهَتْ ... له شِيَمٌ، من مُشْبِهٍ وضَرِيبِ
[ابن الضيف]
هو حيدرة بن عبد الظاهر بن الحسن بن علي الربعي الضيف.
كان من دعاة الأدعياء، الغلاة لهم في الولاء، وكان في حدود سنة خمسمائة في عهد آمرهم، وله فيه مدائح كثيرة، لدواعي لمنائح مثيرة. وقع إلي ديوانه بخطه، وكنت عازماً لفرط غلوه على حطه، لأنه أساء شرعاً وإن أحسن شعراً، بل أظهر فيه كفراً، فلم يستحق لأساءته كفراً ولا غفراً. لكنني لم أر أن أترك كتابي منه صفراً، لأن البحر الزاخر، يركبه المؤمن والكافر، ويقصده البر والفاجر، يحمل الغثاء كما يحمل الدر، والمركب فيه يجمع العبد والحر. وقد أوردت من مستحسناته كل ما يعفي على سيئاته، ويغضي به على هفواته. فمما عنيت بإثباته، من قصائده ومقطوعاته، قوله من قصيدة يعارض بها ابن هانىء المغربي:
طَلَعَتْ صباحاً مشرقاً يتهلَّلُ ... ووراءها بالوَحْفِ ليلٌ أَلْيَلُ
ودنَتْ بها شمسُ الظهيرةِ تَعْتَلي ... نوراً وما للشمس طَرْفٌ أَكْحَلُ
وثنتْ قضيبَ الخيزرانةِ تحتهُ ... حِقْفٌ يكاد تسرُّعاً يتَهَيَّلُ
ومنها:
فالخدُّ ضمَّخَهُ حريقٌ مُشْعَلٌ ... والَّغْرُ عطَّرَه رحيقٌ سَلْسَلُ
وقوله من أخرى:
هَزَّتْ كثيباً بالقوامِ مَهِيلاَ ... وثنتْ قضيباً فوقهُ مجدولا
ورنتْ بمقلةِ جُؤْذَرٍ هاروتُها ... بالسحر ينفثُ بكرةً وأصيلا
ورمتْ بأسهمها فؤاداً مُدْنَفاً ... منّي، وقلباً لا يزالُ عليلا
ومضتْ مودَّعةً فعَطَّرتِ الرُّبَى ... أَرجاً تَجُرُّ بهِ الرياحُ ذُيولا
تُهدي الصَّبا منها لطيمةَ عنبرٍ ... ونسيمُ أنفاس الشمال شَمولا
من ذمَّ أيام الفراق فإنَّ لي ... صبراً على يومِ الفراق جميلا
إن ودَّعَتْ فَلَثَمْتُ ثغراً أَشْنَباً ... ورشفتُ ريقاً بارداً معسولا
وقوله من أخرى في الشيب:
لباسُ المشيبِ لخلعِ الشبابِ ... وقربُ القتيرِ بعيدُ الذهابِ
ونَشْرُ الزمان بأحداثهِ ... لمسطورِها طيُّ هذا الكتاب
وجدَّةُ أثوابه أَخْلَقَتْ ... بأثوابِ عُمْرٍ بطيء الإِياب
مناسِرُهُ اختطفتْ مهجتي ... وأَظفاره أَنْشَبَتْ في إهابي
أَرقِّعُ منه قميصَ البياضِ ... وأسترُهُ بسوادِ الخضاب
فإن قيلَ هذا سُخَامُ المشيبِ ... فقلتُ: على فقدِ عصرِ الشباب
ومنها:
حنانيكَ من زائرٍ ليتهُ ... يبدِّلُني وَصْلَهُ باجتنابِ
حِبَالةُ إِعراضِه صَيَّرَتْ ... سكونَ الحياةِ إِلى الاضطراب
وقوله من أخرى:
فتأمَّلْ ربعاً إِذا ما خلا ... أهلوهُ فالوجدُ منه ليس بخالِ
ذاك مَغْنىً يُغْنيك مَرْأىً عن ... السمع بتجديده الهوى وهْو بالِ
طالما أمكَنَتْ به فُرَصٌ جا ... ذَبْتُ فيها مغازلاتِ الغزال
بين وردٍ كوردِ خَدَّيه في ... الحسن وروضٍ كوجهه في الجمال
ونَدىً كالدموع في مُقَلِ النر ... جسِ أو فيضِ عَبْرَةٍ في دلال
يا لقومي من سحر تفتير طَرْفٍ ... وقعُهُ في القلوب وقعُ النبال
ومنها:
كلما بَلْبَلَتْهُما راحةُ التَّجميشِ ... هاجَتْ سواكنَ البَلْبَالِ
تحت ريحانِ طُرّةٍ جَمَعَتْ ما ... بين شمسِ الضحى وبدر الليالي
فلهذا بالخال نقطةُ ذالٍ ... ولذاك الحُليِّ صورةُ دال
ومنها:
لهف نفسي على قضيبِ نُضَارٍ ... يستميلُ القضيبَ بالاعْتدال
يتجلَّى أعلاهُ عن بَدْر تِمٍ ... ويباري ردفاه دِعْصَ رِمال