كلُّ الأنام بَنُو أبٍ لكنّما ... بالفضل تُعرَفُ قيمةُ الإنسانِ
[المهذب ابن أسعد الموصلي]
الفقيه المدرّس بحمص أبو الفرج عبد الله بن أسعد بن علي بن عيسى، ابن الدهان الموصلي. ما زلتُ وأنا بالعراق، إلى لقائه بالأشواق، فإنني كنت أقف على قصائده المستحسنة، ومقاصده الحسنة، وقد سارت كافيّتُه بين فضلاء الزمان كافة فشهدت بكفايته، وسجّلت بأن أهل العصر لم يبلغوا إلى غايته، فلما وصلتُ إلى حمص أوّل ما صحبت الملك العادل نور الدين ابن زنكي رحمه الله منتصف صفر سنة ثلاث وستين جمعت بيني وبينه المدرسة، وحصلت لأحدنا بالآخر الأنسة، وشفيتُ بالرِيّ من رؤيته الغُلّة، ونفيت بالصحة العلة، وبسطته فانبسط، وحلَّ السفَط، وفضّ عن الدرِّ الصدف، وجلا عن البدر السُّدَف، وأنشد فأنشر الرِّمم، ونشد الحكم، ونثر الدر المنظوم، وأحضر الرحيق المختوم، وأظهر السر المكتوم، وأبرز الروض المرهوم، ونشر الوشي المرقوم، ورأيت المهذَّب مهذّب الروي، ذا المذهب القوي، في النظم السويّ، وهو ذو رويّة رويةّ بغير بديهة، وقريحة صحيحة بالنار شبيهة، جيد الفكر لا يُبْدَه، أيِّد الحلم لا يُسفه، جودته على الجِدّ مقصورة، وفائدته في الجيد محصورة، ورايته في الشعر منصورة، ومأثُرته في الأدب مأثورة، فأما الفقه فهو إمام محرابه، ومحزّب أحزابه، ومقدام شجاعته، ومُقدَّم جماعته، وسراج ظلامه، وسريجي أحكامه، وذُكاء ذَكائه، وغزالة سمائه، وغزّالي أسمائه، ورضوان جنّته، ودهّان جُنّته، وأما سائر العلوم فهو ابن بجدتها، وأبو عُذرتها وأخو بجدتها، والشعر من فضائله كالبدر في النجوم، والبازل في القروم، وصفناه به لشرط الكتاب، وأدخلناه وإن كان معدوداً من الأئمة المذكورين في هذا الحساب، بحر زاخر، وحبر فاخر، وناقد بصير، وعالم خبير، وجوهريٌّ لفرائد الفوائد مُروّج، وصَيْرَفيّ لنقود المزيفين مُبهرج، سائر الشعر، شاعر العصر، محسن النظم ناظم الحسن، لَسِن القوم وقويم اللسن، فيه تمتمة تسفر عن فصاحة تامة، وعقدة لسان تبين عن فقه في القول وبلاغة من عالم مثله علامة، ارتدى قناع القناعة أَنَفَاً من القُنوع، وانتأى عن جِمام الجماعة رِضاً ببرق حظّه اللموع، وأوى إلى كِسْرِ الانكسار، وانزوى في سِترِ الاستتار، ولبس خَميلةَ الخُمول، على أنه قِبلة القبول، وعُقلة العقول، ومَشْرَع المعقول المشروع، وموضع المحمول والموضوع.
فما أنشدني من شعره بحمص سنة خمس وستين القصيدة الكافية التي سارت له في مدح أبي الغارات طلائع بن رُزِّيك وأنفذها إليه بمصر فنفَّذ له الجائزةَ السنيّة، والعطيّة الهنيّة، وهي:
أما كفاكَ تلافي في تَلافيكا ... ولست تَنْقِمُ إلاّ فَرْطَ حُبِّيكا
يا مُخجِلَ الغُصن ما يَثْنِيك عن مَلَلٍ ... هوىً وكلُّ هواءٍ هبَّ يثنيكا
أصبحتُ للقمر المأسور في صَفْدَيْ ... أَسْرٍ وللرِّشإ المملوك مَمْلُوكا
أَبِيتُ أَغْبِطُ فاهُ طِيبَ ريقتِه ... ليلاً وأَحُسدُ في الصُّبحِ المَساويكا
يا حاملَ الراح في فيه وراحتِه ... دَعْ ما بكفّك رُوح العَيش في فيكا
أليسَ سِرُّكَ مستوراً على كلَفي ... فما يَضُرُّك أن أصبحتُ مهتوكا
وفيم تَغْضَب إن قال الوُشاةُ سَلا ... وأنتَ تعلمُ أني لستُ أَسْلُوكا
لا نِلْتُ وَصْلَك إن كان الذي زعَموا ... ولا سقى ظمأي جودُ ابنِ رُزّيكا
هادي الدعاة أبي الغارات خير فتىً ... أدنى عَطِيّاتِه أقصى أمانيكا
القاتِل الألْف يلقاهُم فيَغلِبُهمْ ... والواهبِ الألف تلقاه فيُغْنيكا
على أنه مأخوذ من قول بعضهم:
القاتل الألف إلاّ أنها أُسُدٌ ... والواهب الألف إلاّ أنها بِدَرُ
قد نظمت أنا في قصيدة طويلة هذا المعنى ووفّيتُ الصنعة حقّها بحيث لا يعوزها في الكمال شيء وهو:
في حالتَيْ جودٍ وبأسٍ لم يزلْ ... للتِّبر والأعداءِ منك تَبارُ
تَهَبُ الألوفَ ولا تهاب أُلوفَهُمْ ... هان العدوُّ لديك والدينارُ
رجعنا إلى القصيدة: