كانوا من أهل بيت المجد والحسب، والفضل والأدب، والحماسة والسماحة، والحصافة والفصاحة، والفروسية والفراسة، والإمارة والرئاسة، اجتمعت فيهم أسباب السيادة، ولاحت من أساريرهم وسيرهم أمارات السعادة، يخلفون المجد أولاً لآخر، ويرثون الفضل كابراً عن كابر، أما الأدب فهو شموعه المشرقة، ورياضة المونقة، وحياضة المغدقة، وأما النظم فهم فرسان ميدانه، وشجعان فرسانه، وأرواح جثمانه.
قال مجد العرب العامري بأصفهان في سنة نيفٍ وأربعين وهو يثني عليهم، ويثني عنان مجده إليهم: أقمت في جنابهم مدة، واتخذتهم في الخطوب جنة، وللأمور عدة، ولم ألق في جوارهم جوراً ولا شدة. وممدوحه منهم، الأمير عماد الدولة أبو العساكر سلطان بن علي بن مقلد بن منقذ، وما زالوا مالكي شيزر ومعتصمين بحصانتها، ممتنعين بمناعتها، حتى جاءت الزلزلة في سنة نيفٍ وخمسين فخربت حصنها، وأذهبت حسنها، وتملكها نور الدين عليهم وأعاد بناءها فتشعبوا شعباً، وتفرقوا أيدي سبا، فمنهم:
الأمير مؤيد الدولة
أبو المظفر أسامة بن مرشد
ابن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ بن محمد بن منقذ بن نصر بن هاشم بن سوار بن زياد بن رغيب بن مكحول بن عمرو بن الحارث بن عامر بن مالك ابن أبي مالك بن عوف بن كنانة بن بكر بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة بن مالك ابن حمير بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر بن ارفخشذ بن سام بن نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ بن يرد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم عليه السلام.
أسامة كاسمه، في قوة نثره ونظمه، يلوح من كلامه أمارة الإمارة، ويؤسس بيت قريض عمارة العبارة، نشر له علم العلم، ورقي سلم السلم، ولزم طريق السلامة، وتنكب سبل الملامة، واشتغل بنفسه، ومحاورة أبناء جنسه، حلو المجالسة، حالي المساجلة، ندى الندي بماء الفكاهة، عالي النجم في سماء النباهة، معتدل التصاريف، مطبوع التصانيف، أسكنه عشق الغوطة، بدمشق المغبوطة، ثم نبت به كما تنبو الدار بالكريم، فانتقل إلى مصر فبقي بها مؤمراً مشاراً إليه بالتعظيم، إلى أيام ابن رزيك فعاد إلى الشام، وسكن دمشق مخصوصاً بالإكرام، حتى أخذت شيزر من أهله، ورشقهم صرف الزمان بنبله، ورماه الحدثان إلى حصن كيفا مقيماً لها في ولده، مؤثراً بلدها على بلده، حتى أعاد الله دمشق إلى سلطنة الملك الناصر صلاح الدين يوسف ابن أيوب في سنة سبعين، ولم يزل مشغوفاً بذكره، مستهتراً بإشاعة نظمه ونثره، والأمير العضد مرهف ولد الأمير مؤيد الدولة جليسه، ونديمه وأنيسه، فاستدعاه إلى دمشق وهو شيخ قد جاوز الثمانين وكنت قد طالعت مذيل السمعاني ووجدته قد وصفه وقرظه، وأنشدني العامري له بأصفهان من شعره ما حفظه، وكنت أتمنى أبداً لقياه، وأشيم على البعد حياه، حتى لقيته في صفر سنة إحدى وسبعين بدمشق وسألته عن مولده، فقال: سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، يوم الأحد السابع والعشرين من جمادى الآخرة، وأنشدني لنفسه البيتين اللذين سارا له، في قلع ضرسه:
وصاحبٍ لا أَمَلُّ الدَّهْرَ صُحْبَتهُ ... يشقى لنفعي ويسعى سَعْيَ مُجْتَهِد
لم أَلْقَه مُذْ تصاحَبْنا فحين بَدا ... لناظريَّ افترقنا فُرقَةَ الأبَدِ
لو أنصفت فهمك إن كنت منتقداً، فرقيت عن مرقب وهماك مجتهداً، وغصت بنظر فكرك في بحار معانيه، لغنمت من فرائد درره ولآليه، ولعلمت أن الشعر إذا لم يكن هكذا فلغوٌ، وأنه إذا لم يبلغ هذا الحد من الجد فهجرٌ ولهو، ومن الذي أتى في وصف السن المقلوع، بمثل هذا الفن المطبوع، فهل سبقه أحدٌ إلى معناه، وهل ساواه في هذا النمط سواه.
وأنشدني أيضاً لنفسه، في معنى قلع ضرسه:
وصاحبٍ صاحبني في الصِّبا ... حتى تَرَدَّيْتُ رِداءَ المشيبْ
لم يَبْدُ لي ستين جَوْلاً ولا ... بَلَوْت من أَخلاقه ما يَريب
أَفْسده الدَّهْرُ ومن ذا الذي ... يحافظ العهدَ بظَهْر المَغيب
ثم افترقا لم أُصِبْ مِثْلَه ... عُمْري ومثلي أَبداً لا يُصيب