يسقي الشَّمول بلحظه وبلفظه ... ورُضابه ويَمينه وشِماله
فالسُّكر من لحظاته وفُتورها ... لا ما يعاطي الشَّرْب من جِريالِه
حيّا فأَحيانا بوَردة خدِّه ... وشدا فأَطربنا بسحر مقاله
ريا من ماء نضارة ونعيم، وفي يده كأس مزاجها من تسنيم، فأسكرنا النظر إليه، قبل تناول ما في يديه، وحيانا بنرجس عينيه، وحبانا بورد خديه، فعقرنا الألباب بالعقار، وخلعنا العذار في حب العذار، وقضينا الأوطار بالأوتار، وتوفرنا على معاطاة الشراب، ومناغاة الأحباب، وما توقرنا عن الرضا برشف الرضاب، والاقتضاء بكشف الحجاب.
وما زلنا على تلك الحال، حتى استهلت من رجب غرة الهلال، فخالفنا الهوى، وحالفنا التقى، وانتجعنا صوب الصواب، وادرعنا ثوب الثواب، واستدركنا فارط الزلل، وخفنا حابط العمل، ومنينا من تلك الرفقة بالفرقة، ودقعنا من تلك الصحبة إلى الغربة، وتفرقنا في البلاد، وتشتتنا في الأغوار والأنجاد.
وهذه سيرة الأيام في الأنام، وفعالها بالخاص والعام، لذتها كالأحلام، ويقظتها كالمنام، جعلنا الله من الفائزين بالخلود في دار السلام.
قد كتبت هذه الرسالة على ما بها، ورددت غلطها إلى صوابها.
ومن شعره في غير الرسالة قوله في حبيب حرم وداعه، نقلته من خطه:
وكنتُ إِذا ذِكْرُ التفرُّق راعني ... أُطمِّن قلبي منكم بوَداعِ
فحالتْ أُمورٌ دون نفسي وسُؤلها ... فقنَّعْتها من ذكركم بسماع
وقوله يذم صاحباً له:
وصاحبٍ لا أَعاد الدهرُ صُحْبته ... صَحِبْتُه، وأَراه شَرَّ من صُحِبا
لا يستقيم على حالٍ فأَعرفَه ... ولا يفوه بخيرٍ، جَدّ أَو لعِبا
إِن زرتُه قاضياً حقَّ الإخاء له ... غاب احتجاباً وإِن أَهملتُهُ عَتِبا
وإِن تنصَّلتُ مما قال مُعتذِراً ... أَبى القَبُول، وإِن عاتبتُه غضبا
[أبو طالب بن الخشاب]
وهو عقيل بن يحيى، من أهل باب شرقي من دمشق من عوامها. رأيته شيخاً في دار العدل بدمشق في شعبان سنة إحدى وسبعين. وقد خدم الملك الناصر بقصيدتين. فمما أثبته له من القصيدتين قوله:
من لي بِخِلٍّ جائر في حبِّهِ ... أَبداً يعنّفني بكثرة عَتْبِهِ
إِنْ بان آلم مُهجتي بِبِعاده ... أَو آب أَوْدعني الأَسى في قُربه
لو كان يعلم ما أُلاقي في الهوى ... من صدِّه لانتْ قَساوة قلبه
ومنها:
والدهر لا يبقى على حال فلا ... تأْمن لياليَ جَدْبه أو خِصْبه
ومنها في المدح:
وقد ظمئتُ فلم أَجد بدلاً من الماء الزُّلال سوى مَواطِر سُحْبه
ومن القصيدة الأخرى:
أَطاعتك أَطراف الرُّدَيْنية السُّمْرِ ... وسالمك التوفيق في البرّ والبحرِ
وعشتَ مدى الأَيّام لا قال قائل ... كبا بك زَنْدٌ في عظيمٍ من الأَمر
وكان عرقلة الشاعر ينبزه بالرقبة. وله فيه شعر.
أبو الحسن بن أبي الخير
سلامة النصراني الدمشقي
كاتب تاج الملوك أخي الملك الناصر. فيه أدب وذكاء. كتب لي من شعره قوله:
يا حبّذا يومنا، والكأْس ناظمةٌ ... نظمَ الحَباب عليها شَمْلَ أَحبابِ
ونحن ما بين أَزهارٍ تحفّ بأَنْهارٍ وما بين أَقداح وأَكواب
والماءُ تلعب أَرواحُ النسيم به ... ما بين ماضٍ وآتٍ، أَيَّ تلعاب
كأَنه زَرَدُ الزَّغْف السوابغ، أو ... نقش المَبارد، أَو تفريك أَثواب
وقوله:
سَلِ الحبيب الذي هام الفؤاد به ... هل يذكر العَهد، إِنّ العهد مذكورُ
أَيّام نأخذُها صَهْباءَ صافيةً ... يُمْسي الحزين لديْها وهو مسرور
يسعى بها غُصن بانٍ في كثيب نقاً ... له على القوم ترديد وتكرير
إِذا أَتاك بكأْسٍ خِلْتَها قَبَساً ... يسعى به في ظلام الليل مَقْرور
يُعْطيكه وهو ياقوتٌ، ويأْخذه ... إِذا أَشرت إليه، وهو بَلُّورُ
والأَرضُ قد نَسَجتْ أَيدي الربيع لها ... وشْياً تردَّتْ به الآكام والقُور