قم فاسقِنيها اليوم روميَّةً ... ممّا حبا القَسَّ بها قَيْصَرُ
إِذا بدت في كفّه خِلْتَها ... مِنْ خدّه في كأْسه تُعْصَر
إِنْ غُيِّبَتْ في فيه أَنوارُها ... فإِنها في خَدِّه تظهر
أَو قيل عنها نَجَسٌ مُطلقٌ ... فإِنها من يده تَطْهُر
وأنشدني لنفسه من قصيدة:
وقد عَلِمَتْ أَبناءُ عَصْرِيَ أَنّني ... أَنا المِسْكُ لكن دهري الجائِر الفِهْرُ
إِذا زادني سَحْقاً أَزيد تأَرُّجاً ... فمِنْ شَأْنِه ظُلْمي ومن شَأْنِيَ الصَّبْرُ
وقصدني بقصائد مدحني بها، فأحسنت جائزته.
وله في بعض الأكابر وهو كمال الدين بن الشهرزوري:
حُبُّ الإِمام مُحَمَّدٍ لي مَذْهَبٌ ... ومطامِعي بمُحَمَّدِ بنِ القاسم
وكِلاهُما في الانتظار عقيدتي ... فَنَداك مقرونٌ برُؤْيا القائم
[فتيان بن علي بن فتيان بن ثمال]
الأسدي الخزيمي الدمشقي المعلم سألت بدمشق سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، عند شروعي في إتمام هذا الكتاب، عمن بها من الشعراء وذوي الآداب، فذكر لي فتيان منهم فتيان، معلم الصبيان، وهو ذو نظم كالعقود، وشعر كمجاج العنقود، ومعنى أرق واصفى من معين العذب البرود، ولفظ أنمق وأشهى من وشي البرود. وأنفذ إلي مسودات من شعره ونفاثات من سحره، فكتبت منها ما يروق الأسماع، ويشوق الطباع. فمن ذلك:
نَوْحُ الحَمامِ الوُرْقِ في أَوْراقِها ... دَلَّ أَخا الشوق على أَشواقِها
فأَظهَر الدَّمْعَ وأَخفى زَفْرةً ... خاف على الباناتِ من إِحراقها
لو بَكتِ الوُرْقُ ببعض دَمْعِه ... لامَّحَتِ الأَطواقُ من أَعناقها
فاعْجَبْ لها شاكيةً باكيةً ... لم تَسْلُك الدُّموعُ في آماقها
ما أَفْرقَتْ مُهْجَته من الجوى ... لكنه أَشْفى على فِراقها
دضعِ العُرَيْبَ والنَّقا وزينباً ... تجذِب لِلْبَين بُرى نِياقها
وَعُجْ على دمشق تُلْفِ بلدةً ... كأَنما الجنّات من رُسْتاقِها
سقى دمشقَ اللهُ غيثاً مُحْسِباً ... من مُسْتَهِلّ ديمةٍ دفّاقِها
مدينة ليس يضاهى حُسْنُها ... في سائر البلدان من آفاقها
تودّ زوراء العراق أَنّها ... منها ولا تُعْزى إِلى عِراقها
أَهْدتْ لها يدُ الربيع حُلَّةً ... بديعةَ التَّفْويف من خَلاّقِها
بَنَفْسَجٌ مثل خُدودٍ أُدْمِيَتْ ... بالقَرْص والتَّجْميش من عُشّاقِها
ونَرْجِسٌ أَحداقه رانِيةٌ ... عَنْ مُقَلِ الغِيد وعن أَحداقها
تَنَزَّل المَنْثُورُ من رياضها ... تَنَزُّلَ الأَعلام من شِقاقها
فأَرضُها مِثلُ السماء بَهْجةً ... وزَهْرها كالزَّهْر في إِشْراقها
مياهُها تجري خِلال رَوْضها ... جَرْيَ الثعابين لَدى اسْتِباقها
مُسْفِرةٌ أَنهارها ضاحِكة ... تنطلِق الوُجوه لانطِلاقها
نسيمُ ريّا رَوْضها متى سَرى ... فَكّ أَخا الهموم من وَثاقها
قد رَبَع الرَّبيع من رُبوعها ... وسيقت المُنى إِلى أَسواقها
لا تَسْأَمُ العُيون والأُنوف من ... رؤيتها يوماً ولا استنشاقها
فكم بها من شادنٍ تَحْسُدهُ ... لِحُسنه البدور في اتساقها
كأَنّما رُضابُه الصهباءُ بلْ ... مَذاقه أَطيبُ من مَذاقها
وَمِنْ بدورٍ في الخدور لم تَزَلْ ... كواملاً لم تَدْنُ من محاقها
فأَيُّ أُنْسٍ ثَمَّ لم تلاقِه ... وأَيَّةُ الراحات لم تلاقها
بعدل فخر الدين قَرَّ أَهلُها ... عيناً وزاد الله في أَرزاقها
زوَّجَها الأَمْنَ، وناهيك به ... بَعْلاً، فطيبُ العَيْش من صَداقها