وما بعثناك لتشهد، وإنما بعثناك لتجهد، في طعن بخطي أو ضرب بمهند، فإذا لم تفعل فلا أقل من أن تجلد، وتصبر وتحمل من معك على الصبر، ولا تكون أول من فر، فتعدي بفرارك، تثبت جارك، ولو كتمتها من شهادة لما أثم قلبك، فلا تؤثر الكتب، بما يثير عليك العتب، ولتأنف، من المستأنف، من إيثار الدنية، على المنية، ولتكن لك نفس أبية، والسلام.
أبو بكر ابن عبد العزيز الأندلسي الوزير الكاتب المعروف ب
ابن المرخي
قال الفقيه اليسع، ما كتب قط لأحد لجلالة قدره. توفي سنة أربعين وخمسمائة، والفتح مصنف القلائد وصفه بالبراعة القاضية، واليراعة الماضية، والهمة العالية، والحالة الحالية، والنظم الباهر، والفضل الظاهر، ومما أورد له قوله:
قد هززناك في المكارم غصنا ... واستلمناك في النوائب ركنا
ووجدنا الزمان قد لان عطفا ... وتأنّى فعلا وأشرق حسنا
فإذا ما سألته كان سمحا ... وإذا ما هززته كان لدنا
مؤثرا أحسن الخلائق لا يع ... رف ضنا ولا يكذب ظنا
أنت ماء السماء أخصب وادي ... هـ ورقت رياضه فانتجعنا
نزعت بي إلى ودادك نفس ... قل ما استصحبت من الفضل خدنا
وله يودع الوزير أبا محمد ابن عبدون:
في ذمة المجد والعلياء مرتحل ... فارقتُ صبريَ إذْ فارقت موضعه
ضاءت به برهةً أرجاء قرطبة ... ثمّ استقل فسدّ البين مطلعه
ومن نثره مما كتبه إلى الوزير أبي محمد ابن القاسم: كيف رأي مولاي في عبد له موات يرى الوفاء دينا وملة، ولا يعتقد في حفظ الأخاء ملة، فصدته الأقدار عن رأيه، وأخرته الأيام عن سعيه، فادرع العقوق ولبئست الحلة، وضيع الحقوق ولم تضع الخلة، أيرده بعيب ما جناه الدهر، أم يسمح فشيمته الصبر، بل يسمح ويصفح، ولو كان الغضب يفيض على صدره ويطفح، وله أعزه الله العقل الأرجح، والخلق الأسجح، والأناة التي يزل الذنب عن صفحاتها، ولا يتعلق العيب بصفاتها، وإن كتابه الكريم وردني مشيرا إلى جملة تفصيلها في يد العواقب، والزمان المتعاقب.
ومنها: وفلان أيده الله كما يدريه يردد محاسنه ويرويها، وينشر فضائله ويطويها، إلا أن الأمور انقلبت عليه في هذه البلاد ولا تعرف له حالة، إلا وقد داخلتها استحالة، وربما عاد ذلك إلى نقصان في الوفاء، وإن كان باطنه على غاية الأستيفاء، ولله تعالى نظر، وعنده خير منتظر.
وكتب إليه مسليا عن نكبته: الوزير الفقيه - أدام الله عزه، وكفاه ما عزه -، أعلم بأحكام الزمان من أن يرفع إليها طرفا أو ينكر بها صرفا، أو يطلب في مشارعها شربا زلالا أو صرفا، فشهدها مشوب بعلقم، وروضها مكمن لكل صل أرقم، وما فجأته الحوادث بنكبة، ولا حطته النوائب عن رتبة، ولا كانت الأيام قبل رفعته بوزارة ولا كتبه. فهو المرء يرفعه دينه ولبه، وينفعه لسانه وقلبه، ويشفع له علمه وحسبه، وتسمو به همته وأدبه، ويعنو بين يديه شانئه وحاسده، ويثبت في أرض الكرم حين يريد أن يجتثه حاصده، ويقر له بالفضل من لا يوده، وينصره الله بإخلاصه حين لا ينصره سواعه ولا وده.
شعر:
وإن أمير المسلمين وعتبه ... لكالدهر لا عار بما فعل الدهر
وما هو إلا نصل أغمد ليجرد، وسهم سد طريقه ليسدد، وجواد ارتبط عنانه، وقطر يأتي به سحابه وسيسيله عنانه، وإن لمهارق لتلبس بعده من ثياب حداد، وإن ألسنة الأقلام لتخاصم عنه بألسنة حداد، وسينجلي هذا القتام عن سابق لا يدرك مهله، ويعتمده الملك الهمام بإكرام لا يكدر منهله، ويؤنس ربع الملك الذي أوحش ويوهله، ويرقيه أيده الله إلى أعلى المنازل ويؤهله، وينشد فيه وفي طالبيه:
وسعى إلي بِعَيْبِ عزَّةَ نسوة ... جعل الإلاه خدودهن نعالها
وأنا أعلم أنه سيتبرم بهذا الكلام، ويوليني جانب الملام، ويعد قولي مع السفاهات والأحلام، فقد ذهب في رفض الدنيا مذهبا، وتجلى التوفيق عن عينيه غيهبا، وتركنا عبيد الشهوات نمسك بخطامها، ونرتع في حطامها، وأسأل الله عملا صالحا، وقلبا مصالحا، ويقينا نافعا، وإخلاصا شافعا، بمنه.
ومن مكاتبة إلى الوزير أبي الحسن ابن مهلب:
أسير وقد ختمت على فؤادي ... بحبك أن يحل به سواكا