فمن بعد ما أَوردتها حَوْمةَ الوغى ... وأَصدرتها، والبيض من عَلَقٍ حُمْر
وجلّلتها نقعاً أَضاع شِياتِها ... فلا شُهْبُها شهب ولا شُقْرها شقر
علا النهرُ لما كاثَرَ القصب القنا ... مكاثرةً في كل نَحْرٍ لها نَحْرُ
وقد شرِقتْ أَجْرافه بدم العِدى ... إِلى أَن جرى العاصي وضحضاحه غَمر
صدعْتَهمُ صَدْعَ الزُّجاجة لا يدٌ ... لجابرها، ما كلُّ كسرٍ له جَبْر
فلا ينتحل من بعدها الفخرَ دائلٌ ... فمن بارز الإِبرنز كان له الفخر
ومَنْ بزّ أَنطاكية مِنْ مليكها ... أَطاعته أَلحاظُ المُؤلّلَةِ الخُزْر
أَتى رأسه ركضاً وغودر شِلْوُهُ ... وليس سوى عافي النسور له قبر
كما أَهدتِ الأَقدارُ للقمص أَسْرَهُ ... وأَسْعَدُ قِرنٍ من حواه لك الأَسْر
فأَلْقتْ بأَيديها إِليك حصونُه ... ولو لم تُجِبْ طوعاً لجاء بها القَسْر
وأَمستْ عَزاز كاسمها بك عِزَّةً ... تشُقّ على النَّسريْن لو أَنها الوَكْر
فسِرْ تملإِ الدُّنيا ضياءً وبَهْجةً ... فبالأُفُق الداجي إِلى ذا السَّنا فَقْر
كأَني بهذا العزم لا فُلّ حَدُّه ... وأَقصاه بالأَقصى وقد قُضِيَ الأَمر
وقد أَصبح البيت المقدَّسُ طاهراً ... وليس سوى جاري الدماء له طُهْر
وإِن تتيمَّمْ ساحِل البحر مالكاً ... فلا عجبٌ أَن يملِك الساحلَ البحر
سللتَ سيوفاً أَثكلت كلَّ بلدة ... بصاحبها حتى تخوفك البدر
ومنها:
إِذا سار نور الدين في عَزَماته ... فقُولا لِلَيْلِ الإِفك قد طلَع الفجر
هُمامٌ متى هَزَّت مواضي سيوفه ... لها ذكراً، زُفّت له قَلْعةٌ بِكْر
ومنها:
خلعتَ على الأَيّام من حُلَلِ العُلى ... ملابِس من أَعلامها الحمد والشكرُ
فلا تفتخر مصرٌ علينا بنيلها ... فيمناكَ نيلٌ كلُّ مِصْرٍ به مِصْرُ
وله من قصيدة في مجير الدين آبق:
بسيفك المُنْتَضى من الكَحَلِ ... ووَرْدِك المُجْتنى من الحجلِ
وكأسك المُشْتَها مُقَبَّلُها ... أَنت لأَجلي خلقت أَمْ أَجَلي
أَهوى لذِكراك كلًّ عاذلة ... حسْبك حبّاً محبّةُ العَذَل
لولاك لم أَستلذّ لائمةً ... فليت مَنْ لامني عليَّ وَلِي
كي لا يكون المَلام منه على ... مُعتدِل القدّ غير معتدِل
مُبتهجٌ والنّفوس ذاهلةٌ ... وآِمنٌ والقلوب في وَجَل
لو بان جسمي لِخصره لَشكا ... ذاك إِلى ذا ظُلامةَ الكَفَل
وله:
وحمائمٍ ناحتْ على فَنَنِ ... فبعثن لي حزناً إِلى حَزَنِ
ناحتْ ونُحتُ، وفي البكا فرج ... فظللت أُسعدها وتسعدني
شتَّى الهوى، والشوقُ يجمعنا ... كلٌّ بكى منّا على شجن
وله:
قل لمن أَطلع شمس الكأْس من أُفْق اليمينِ
إِحبس الكأْس فقد عِفتُ سُلاف الزَّرَجونِ
واسقني من خمر أَلحا ... ظك كأْساً من فتونِ
أَنا لا أَشربها إِلا بكاسات الجُفونِ
لا تلمني، أَين سُكْرُ الخمر من سُكْر العيونِ
وله في العذار، وقد أعجب فيه وأغرب:
يا مُسْكري وجداً بكأْس جفونه ... قل لي: أَتلك لواحظٌ أَم قَرْقَفُ
بادر جمالك بالجميل فربّما ... ذَوَتْ الملاحةُ أَو أَبلَّ المُدْنَفِ
بواسبق عذارك باعتذارك قبل أَن ... يأْتي بعزل هواك منه مُلَطَّفُ
تشبيه العذار بالملطّف، في هذا المعرض، من نسيم الروض ألطف.
باب في ذكر محاسن جماعة من الشعراء
من أهل عصري الأقرب بدمشق
عرقلة الكلبي
وهو أبو الندى حسان بن نمير