للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

من حاضرة دمشق، من كلب وبرة من الجلاح وهي بطن منها. لقيته بدمشق شيخاً خليعاً ربعة مائلاً إلى القصر، أعور مطبوعاً، حلو المنادمة، لطيف النادرة، معاشراً للأمراء، شاعراً مستطرف الهجاء، لم يزل خصيصاً بالأمراء السادة بني أيوب، ينادمهم ويداعبهم ويطايبهم قبل أن يملكوا مصر، والملك الناصر صلاح الدين يوسف أشعفهم ينكته، وأكلفهم بسماع نتفه، وله فيه مدائح، ولديه منه منائح.

فمن جملة قوله فيه، وكان قد وعده أنه متى ملك مصر يعطيه ألف دينار، فقصده ومدحه بأبيات، منها:

قل للصّلاح مُعيني عند إِعساري ... يا أَلف مولاي أَين الأَلفُ دينار

أَخشى من الأَسْر إِن حاولت أَرضكم ... وما تفي جَنّة الفردوس بالنّار

فجُدْ بها عاضِديّاتٍ مُسطَّرَةً ... مِنْ بعض ما خلف الطاغي أَبو العار

حُمراً كأَسيافكم غُرّاً كخيلكمُ ... عُتْقاً ثِقالاً كأَعدائي وأَطماري

ومن جملة ما قال فيه:

الحمد لله السّميع المجيبْ ... قد هلَك الشِّرْك وضلّ الصّليبْ

يا ساكني أَكناف مصر أَنا ... أَبو نُوَاس والصلاحُ الخصيب

ثم عاد إلى دمشق وهو مسرور محبور، وكان ذلك ختام حياته ودنا أجل وفاته، وذلك بعد سنة خمس وستين بدمشق في سنة ست أو سبع وخمسمائة.

وقد أنشدني كثيراً من شعره. وسمعت من أصدقائي أيضاً. فمن ذلك قوله يشير إلى أنه أعور:

أَقولُ والقلبُ في همٍّ وتعذيبِ ... يا كلَّ يوسفَ إِرحم نصف يعقوبِ

وقوله في محبوب أحول، وهو أعور. وهو من قصيدة في مدح جمال الدين وزير الموصل:

يا لائمي هل رأَيتَ أَعجبَ مِنْ ... ذي عَوَرٍ هائمٍ بذي حَوَلِ

أَقِلُّ في عينه ويكثُرُ في ... عيني، بضدّ القياس والمَثَلِ

ما آفتي غيرُ وَرْدِ وَجنته ... والوردُ لا شكّ آفةُ الجُعَلِ

مهفهفٌ كالقضيب مُعتدلٌ ... وحكمه فيَّ غيرُ معتدل

فلو رأَتْ حسنَه فلاسفةٌ ... لعوّذوه بعِلَّة العِلل

كم قد سقاني مُدامَ فيه على ... غنائه وانتقلتُ بالقُبَلِ

قد ذقتُ منه هجراً أَمرَّ من الصّبر وصلاً أَحلى من العسل

أَهوى تَجَنِّيه والصدودَ كما ... يهوىالمعالي محمدُ بن علي

محمد خاتَمَ الكرام كما ... سميُّه كان خاتم الرُّسُل

وله في غلام يحبه اسمه يعيش:

بأَبي قدُّ يعيش بأَبي ... حين يهتزُّ اهتزازَ القُضُبِ

رشأٌ حاسدُه ضدُّ اسمه ... وإِذا ما عكسوه مَذْهبي

وله في غلام قبله مودعاً:

أَقسمتُ يا لائمي فيمن بُليتُ به ... وَمَنْ تحكَّم في هجري وإِبعادي

لو أَنه كلّما سافرتُ ودّعني ... بقُبلةٍ لم أَزل في الرائح الغادي

وله في المقدحة لغزاً:

ومضروبةٍ من غير جُرْمٍ ولا ذنب ... حوى قلبُها مثلَ الذي قد حوى قلْبي

إِذا ما أَتاها القابسون عَشِيَّةً ... حَكَتْ فلكاً يرمي الشياطين بالشُّهْب

وقوله في طالب الصوري الشاعر ويستطرد بالهيتي الشاعر نصر:

يا طالبُ الصوريُّ إِن لم تتبْ ... عن شعرك المنتَحَل الباردِ

حَلَّ بأَكتافك في جِلِّقَ ... ما حلّ بالهيتيِّ في آمدِ

وقوله في وحيش الشاعر:

لا بارك الرّحمن في وُحَيْشِ ... فإِنه مُكَدِّرٌ للعَيْشِ

كم قال، لا قُلْقِل غيرُ نابِه، ... أَبياتَ شِعْرٍ كبيوت الخَيْش

وقوله من أبيات وقد أعطاه بعضهم شعيراً:

يقولون: لِمْ أَرخصتَ شعرك في الورى؟ ... فقلتُ لهم: إِذ مات أَهلُ المكارمِ

أُجازى على الشعرِ الشعيرَ وإِنهُ ... كثيرٌ إِذا استخلصته من بهائم

وقوله، مما يغنى به:

عندي إليكم من الأَشواق والبُرَحا ... ما صيّر الجسم من فرط الضَّنا شَبَحا

أَحبابَنا لا تظنّوني سلوتُكمُ ... الحالُ ما حالَ والتبريحُ ما برِحا

<<  <  ج: ص:  >  >>