وقد يحسب الإنسان ما ليس مدرِكاً ... كما يدرِكُ الإنسانُ ما ليس يحسب
وقوله من قصيدة كتبها إلى والده سنة ثلاث وأربعين:
ظنَّ النَّوى منك ما ظنَّ الهوى لَعِبَا ... وغرَّه غَرَرٌ بالبَيْنِ فاغْتربا
فظلَّ في رِبْقَةِ التَّبْريح مُؤْتَشِباً ... مَن مات من حُرْقَةِ التَّوديع مُنْتَحِبا
مُتَيَّمٌ في بني كعبٍ به نسبٌ ... لكنه اليوم عُذْريٌّ إذا انتسبا
أجاب داعي النَّوى جهلاً بموقِعها ... فكانَ منها إلى ما ساءه سببا
يا عاتِبَيَّ رُوَيْداً من مُعاتَبتي ... فلستُ أوّلَ مُخْطٍ في الورى أَرَبَا
رُدّا حديثَ الهوى غَضّاً على وَصَبٍ ... يكادُ يقضي إذا هبَّتْ عليه صَبا
وجَدِّدا عهده بالسَّمع عن حلبٍ ... فإنَّ أَدْمُعَه لا تَأْتَلي حَلَبَا
ومنها:
للهِ قلبي ما أغرى الغرامَ به ... وحسنُ صبريَ لولا أنه غُلِبا
يا قاتلَ اللهُ عَزْمَاً كنتُ أَذْخَرُه ... رُزِيتُه في سبيل الحب مُحْتَسِبا
إذا تفَكَّرْتُ في أمري وغايتِه ... عَجِبْتُ حتى كأني لا أرى عَجَبَا
ومنها:
أَسْتَودِع اللهَ أحباباً أُشاهِدهمْ ... بعين قلبي وليستْ دارُهم كَثَبَا
أصبحتُ لا أرتجي مِن بعد فُرْقتهم ... خِلاًّ أُفاوضه جِداً ولا لَعِبَا
فإن سُرِرتُ فإني مُضْمِرٌ حَزَنَاً ... أوِ ابْتسمتُ وجدتُ القلب مكتئِبا
وقوله:
قالوا تَرَكْتَ الشِّعرَ قلتُ لهم ... فيه اثنتان يعافُها حسبي
أمّا المديح فجُلُّهُ كذبٌ ... والهجوُ شيءٌ ليس يَحْسُنُ بي
وقوله في كسرِ الخليج بمصر:
حبَّذا كَسْرُ الخليجِ ... وهو ذو مرأى بهيجِ
حبَّذا ما نحنُ فيه ... مِن دُعاءٍ وضجيج
والشَّواني فيه تجري ... كالصَّياصي في النَّسيج
نحن في جوِّ سماءٍ ... ما لَدَيْها من فُروج
كبُدورٍ في بُروجِ ... أو سُطورٍ في دُروجِ
أو زُهورٍ في مُروجِ ... أو ملوك في سروجِ
وله منها في المدح:
قلتُ إذ أقبل كالد ... رِّيِّ في الليلِ الدَّجُوجي
ما رأينا قطُّ بحراً ... سائراً نحو الخليج
وقوله من قصيدة:
من لي بأَحورَ قُربي في محبَّته ... كالبعدِ، لكن رجائي منه كالياسِ
مُستعذِبٌ جَوْرَه فالقلب في يده ... مُعذَّبٌ، ويدي منه على راسي
ودَّعْتُه مِن بعيدٍ ليس من مَلَلٍ ... لكن خَشِيتُ عليه حَرَّ أنفاسي
وقوله:
ما ضرَّهُم يومَ جَدَّ البَينُ لو وقفوا ... وزَوَّدوا كَلِفَاً يودي به الكَلَفُ
تخلَّفوا عن وَداعي ثُمَّتَ ارتحلوا ... وأخلفوني وُعوداً ما لها خَلَفُ
ومنها:
أَسْتَودِعُ الله أحباباً أَلِفْتهُمُ ... لكن على تَلَفي يوم النَّوى ائتَلفوا
تَقَسَّموني، فقِسْمٌ لا يُفارِقُهمْ ... أَيْنَ اسْتَقلّوا وقسمٌ شَفَّه الدَّنَفُ
عَمْرِي لَئِنْ نَزَحَتْ بالبين دارُهمُ ... عنّي فما نزَحوا دمعي ولا نزَفوا
يا حبّذا نظرةً منهم على وَجَلٍ ... تكادُ تُنْكِرني طوْراً وتعترِف
وتوفي أبو علي بن أبي جرادة بالقاهرة في جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.
أخوه:
القاضي الأعز أبو البركات بن أبي جرادة
كان أميناً على خِزانة الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بن آق سُنقُر وهو عدلُها، وبيده عَقدُها وحَلُّها، إلى أن توفي بعد سنة خمسٍ وخمسين وخمسمائة، ووجدتُ من شعره في ديوان أخيه من قصيدة كتبها إليه بمصر:
يميناً بما ضمَّتْ غداةَ المُحصَّب ... جَنوبُ مَنىً من ذي بِطاحٍ وأخشَب
ومنها:
وشُعْثٍ على شُعْثٍ كأنَّ وجوههمْ ... شُموسُ نهارٍ أو أهلَّةُ غيهب