بعثت إليك جناحا فطر ... على خفية من عيون البشر
على ذلل من نتاج البروق ... وفي ظلل من نسيج الشجر
فحسبي ممن نأي من دنا ... فمن غاب كان فدا من حضر
وكتب إليه الوزير أبو محمد بن عبدون مع خمر وورد أهداهما له:
إليكها فاجتلها منيرة ... وقد خبا حتى الشهاب الثاقب
واقفة بالباب لم يؤذن لها ... إلا وقد كاد ينام الحاجب
فبعضها من المخاف جامد ... وبعضها من الحياء ذائب
فقبلها وكتب إليه:
قد وصلت تلك التي زففتها ... بكرا وقد شابت لها ذوائب
فهبّ حتى نسترد ذاهبا ... من أنسنا ان استرد ذاهب
وكتب إلى أبي طالب بن غانم أحد وزرائه وكان وزير رأيه، ونديم أنسه، وحميم نفسه، يستدعيه:
أقبل أبا طالب إلينا ... وقع وقوع الندى علينا
فنحن عقد بغير وسطى ... إن لم تكن حاضرا لدينا
الحاجب ذو الرئاستين
أبو مروان عبد الملك بن رزين
وصفه بالجلالة والاصالة والبسالة، وموروث المجد التالد ومكتسبه الطارف. وترويجه سوق أولي المعارف بإيلاء العوارف، وتبليجه وجوه المكارم بشمس فضله الوافر في ظله الوارف، وأنه من قوم قوموا الجوانح، وذللوا الجوامح، وراضوا من الخطوب صعابا، وفاضوا ثوابا وعقابا، وهو واسطة عقدهم، ورابطة عقدهم، وأسد خيسهم، وهزبر عريسهم. وكانت دولته حافلة الاخلاف، كافلة بالإنصاف، رافلة في ثوب الائتلاف، مهتزة الأعطاف، معتزة الأطراف، ولكنه كثير الشطط على ندمانه، سريع السخط على خلانه، وربما عاد نواله وبالا، وإرغابه إرغاما، وإنعامه انتقاما، لا يرى الجاني صفحة صفحه ولا يرضى من دم المذنب إلا بسفكه وسفحه، وكان حيا النادي في الندى، وحية الوادي على العدى، وله نظم ونثر لم يقصرا عن الغاية، وكلاهما في الجود عالي الراية. فمما أورد من شعره الرائق، وسحره الفائق، قوله في وصف روضة أرجت أرجاؤها، وتلألأت آلاؤها، وتشابه لمقابلة الزهر الزهر أرضها وسماؤها، وحكت جلاؤها صفاء الصفاح ونشرت معاطفها ملاء الملاح، وأطلعت أسحارها صباح الصباح.
فروض كساه الطل وشيا مجددا ... فأضحى مقيما للنفوس ومقعدا
إذا صافحته الريح خلت غصونه ... رواقص في خضر من العصف ميدا
إذا ما انسكاب الماء عاينت خلته ... وقد كسرته راحة الريح مبردا
وإن سكنت عنه حسبت صفاءه ... حساما صقيلا صافي المتن جُرَّدا
وغنت به ورق الحمائم حولنا ... غناء ينسّيك الغريض ومعبدا
فلا تَجْفَوَنَّ الدهر ما دام مسعدا ... ومد إلى ما قد حباك به يدا
وخذها مداما من غزال كأنه ... إذا ما سعى، بدر تحمل فرقدا
وركب في يوم غيم للصيد، وقد فصم المدام منه عرى الأيد، وشمس الضحى محجوبة، وكأس الودق مسكوبة، والسماء متدفقة، والأرض مزلفة، فعثر به جواده، وقد تفرد وغابت عنه أجناده وأنجاده، فآل تعثر كميته، إلى التأخر في بيته، وبلغه أن عدوا له سر بسقطته، وفرح بفرطته، في ورطته، فقال:
إني سقطت ولا جبن ولا خور ... وليس يدفع ما قد ساقه القدر
لا يشمتن حسودي إن سقطت فقد ... يكبو الجواد وينبو الصارم الذكر
هذا الكسوف يرى تأثيره أبدا ... ولا يعاب به شمس ولا قمر
وقال في خليط ودع، وأسال فراقه المدمع:
دع الدمع يفني الجفن ليلة ودعوا ... إذا انقلبوا بالقلب لا كان مدمع
سروا كاقتداء الطير لا الصبر بعدهم ... جميل ولا طول الندامة ينفع
أضيق بحمل الحادثات من النوى ... وصدري من الأرض البسيطة أوسع
وإن كنت خلاع العذار فإنني ... لبست من العلياء ما ليس يخلع
إذا سلت الألحاظ سيفا خشيته ... وفي الحرب لا أخشى ولا أتوقع
وقال فيمن سكر فمثل له سكره معترك النزال، ومقتحم الأبطال، فاستدعى حرب الحرب، واستحلى طعم الطعن وضرب الضرب: