كما تنصل الأرماح ثم تركب
سلام على غيَّابها وحضورها ... سلام على أوطانها وقصورها
سلام على صحرائها وقبورها ... ولا زال سور الله من دون سورها
فحسن دفاع الله أحمى وأرهب
وفي ظهرها المعشوق كل مرفع ... وفي بطنها الممشوق كل مشفع
متى تأته شكوى الظّلامة ترفع ... وكلّ بعيد المستغاث مدفع
من الله في تلك المواطن يقرب
وكم كربة ملء الجوانح والقلب ... طرقت وقد نام المُوَاسُون من صحبْي
بروعتها قبر الولي أبي وهب ... وناديت في الترب المقدس: يا رب
فلبّت بما يهوى الفؤاد ويرغب
فيا صاحبي إن كان قبلك مصرعي ... وكنت على عهد الوفا والرضا معي
فحط بضاحي ذلك الترب مضجعي ... وذرني فجار القوم غير مروع
وعندهم للجار أمن ومرحب
رعى الله من يرعى العهود على النوى ... ويظهر بالقول المخير ما نوى
ولبيه من مستحكم الود والهوى ... يرى كل واد غير واديه محتوى
وأهدى سبيليه التي يتجنب
[ذو الوزارتين الكاتب أبو محمد ابن عبد البر]
ذكره صاحب قلائد العقيان بأنه كان واحد الأندلس، وهادى الأنفس بالهدى، وبحر البيان، وفخر الزمان، إلا أنه حصل عند عبَّاد المنبوز بالمعتضد في طالع سعده آفل، وبغمام نعماه حافل، ولولا فراره، لأظلم نهاره، ولولا هربه، لم يقض قبل أن يقضى نحبه أربه، وقد أورد من نظمه ونثره ما يسخر بالسحر، ويسخر له قلائد الدر، فمن ذلك في رجل مات مجذوما:
مات من كنّا نراه أبدا ... سالم العقل سقيم الجسد
بحر سقم ماج في أعضائه ... فرمى في جلده بالزبد
كان مثل السيف إلا أنه ... حسد الدهر عليه فصدي
وقوله:
لا تكثرنّ تأملا ... واحبس عليك عنان طرفك
فلربما أرسلته ... فرماك في ميدان حتفك
ومن نثره من رسالة: كتابي عن حال قد طال جناحها، وآمال قد أسفر صباحها، ويد قد اشتد زندها، ونفس قد انتجز في كل محاول وعدها، بما وردني به كتابك.
ومن أخرى: مكاتبة الصديق عوض من لقائه إذا امتنع اللقاء، واستدعاء لأنبائه إذا انقطعت الأنباء، وفيهما أنس، تلذ به النفس، وارتياح تنعش به الارواح، وارتباط يتصل فيه الاغتباط، وافتقاد، يتبين منه الاعتقاد والوداد، ومثل خلتك الكريمة عمرت معاهدها، ومثل عشرتك الجميلة شدت معاقدها، ومثل مكارمك البرة حمدت مصادرها ومواردها، وإذ قد تسببت لي أسبابها، فلا أقطعها، وإذ قد انفتحت لي أبوابها، فلا أدعها ...
[الوزير الكاتب أبو الفضل ابن حسداى]
وصفه بالإجراء في ميدان البلاغة إلى أبعد أمد، والاستمداد من البيان والبراعة أغزر مدد، وكان من درجة الأكفاء محطوطا غير محظوظ، وبأهل الذمة ملحقا غير ملحوظ، محفوفا بالحرمة لكن في منصب غير محفوظ، حتى هداه الله فلحق به، وسما بعد ذلك في رتبه، وكان في زمان المنعوت في المغرب بالمقتدر، وأورد له قطعة فيه كالدر المنتثر نظمها في مجلس أنس دارت كؤوسه، وأنارت شموسه، ورقدت حوادثه، وتنبهت مثانيه ومثالثه، وهي:
توريد خدك للأحداق لذّات ... عليه من عنبر الأصداغ لامات
نيران هجرك للعشاق نار لظى ... لكن وصلك إن واصلت جنات
كأنما الراح والراحات تحملها ... بدور تم وأيدي الشرب هالات
حشاشة ما تركنا الماء يقتلها ... إلا لتحيا بها منا حشاشات
قد كان في كأسها من قبلها ثقل ... فخف إذ ملئت منها الزجاجات
عهدٌ لِلُبْنَى تقاضته الأمانات ... بانت وما قضيت منها لبانات
يدني التوهم للمشتاق منتزحا ... من الأمور وفي الأوهام راحات
تقضى عدات إذا عاد الكرى وإذا ... هب النسيم فقد تهدى تحيّات
زور تعلل قلب المستهام به ... دهرا وقد بقيت في النفس حاجات
لعل عتب الليالي أن يعود إلى ... عتبي فتبلغ أوطار ولذات