للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سأَلت الكويفي في قُبْلةٍ ... فنام على وجهه وانبطحْ

وقال فهمتُ دليل الخطاب ... ومن عَشِقَ الدَّنَّ باس القدح

وفائدة الفقه أَن تهتدي ... إلى صورة الغَرض المقترح

المهذب أبو الحسين

أحمد بن منير الطرابلسي

كان شاعراً مجيداً مكثراً هجاء معارضاً للقيسراني في زمانه، وهما كفرسي رها، وجوادي ميدان. وكان القيسراني سنياً متورعاً، وابن منير مغالياً متشيعاً، وتوفي بعد سنة خمسين.

سمعت الأمير مؤيد الدين أسامة بن منقذ في دمشق سنة إحدى وسبعين، وهو يذكره، وجرى حديث شعر ابن مكنسة المصري وقوله:

لا تخدعنَّك وَجْنَةٌ مُحمرّة ... رَقّتْ، ففي الياقوت طَبْعُ الجَلْمَدِ

فقال من هذا أخذ ابن منير، حيث يقول من قصيدة له:

خِدْعُ الخدود يلوح تحت صفائها ... فحَذارِها إن موّهت بحيائها

تلك الحبائلُ للنفوس، وإنما ... قطع الصّوارم تحت رَوْنق مائها

فقلت له: هذا شعر جيد، وأنت لأهل الفضل سيد. فاحكم لنا كيف كان في الشعر، وهل كان قادراً على المعنى البكر. فقال: كان مغواراً على القصائد يأخذها، ويعول في الذب عنها على ذمة للناقد أو للجاحد.

وسمعت زين الدين الواعظ ابن نجا الدمشقي يذكره ويفضله، ويقرظه ويبجله ويقول: ما كان أسمح بديهته، وأوضح طريقته، وأبدع بلاغته، وأبلغ براعته. ورأيته يستجيد نثره، ويستطيب ذكره، ويحفظ منه رسائل مطبوعة، ويتبع له في الإحسان طرائق متبوعة، ويقول: كانت الجمهرة على حفظه، وجمة المعاني تتوارد من لفظه. ويصف ترفعه على ابن القيسراني واستنكافه من الوقوع في معارضته، والرتوع في مرعى مناقضته.

ولقد كان قيماً بدمشق، إلى أن أحفظ أكابرها، وكدر بهجوه مواردها ومصادرها، فآوى إلى شيزر وأقام بها، وروسل مراراً بالعود إلى دمشق فضرب الرد وجه طلبها، وكتب رسائل في ذم أهلها، وبين عذره في تنكب سبلها.

واتصل في آخر عمره بخدمة نور الدين محمود بن زنكي رحمه الله، ووافى إلى جلق رسولاً من جانبه قبل استيلائه عليها وتملكه لها، وارتدى عنده من الوجاهة والكرامة حللها.

ومحاسن أبي الحسين بن منير منيرة، وفضائله كثيرة، وقد أوردت منها ما قلب في قالب الظرف وظرفه، وانصرف قلب الارتياح إلى مزج صرفه، ولم ينحرف مزاج الاعتدال باعتلال حرفه. ولم يتفق لي ديوانه لأختار مختاره، وأمتار مشتاره، وأجني من روض حسنه ورده وبهاره، ورنده وعراره، وإنما التقطت أعلاقه من أفواه المنشدين، واستفتحت أغلاقه من أيدي الموردين. وسأثبت إن ظفرت بديوان شعره، كل ما يصدع به فجر فخره، ويطلع منه بدر قدره، ويدل على سمو مناره، ونمو أنواره، وعلو ناره، ورقة نسيم أسحاره، ودقة سر سحره في معاني أشعاره، وأخفر الخريدة من سخيفها، وأوفر لها الحظ من وافر رائقها ولطيفها، وأجلو لناظرها طرف طريفها، وأغني عن ثقيلها بذكر خفيفها.

وذكره مجد العرب العامري بأصفهان، لما سألته عن شعراء الشام، فقال: ابن منير، ذو خاطر منير، وله شعر جيد لطيف، لولا أنه يمزجه بالهجو السخيف. قال: وأنشدني يوماً قصيدة له فما عقدت خنصري منها إلا على هذا البيت:

أنا حزبٌ، والدهرُ والناسُ حزبٌ ... فمتى أغلِب الفريقَيْن وحدي

شعره ككنيته حسن، ونظمه كلقبه مهذب، أرق من الماء الزلال، وأدق من السحر الحلال، وأطيب من نيل الأمنية، وأعذب من الأمان من المنية. وقع القيسراني في مباراته ومعارضته، ومجاراته في مضمار القريض ومناقضته، فكأنهما جرير العصر وفرزدقه، وهما مطلع النظم ومشرقه، وشى بالشام عرفهما، ونشا عرقهما، وكثر رياشهما، وتوفر معاشهما، وعاشا في غبطة، ورفعة وبسطة. وكنت أنا بالعراق أسمع أخبارهما، ثم اتفق انحداري إلى واسط سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، فانحدر بعض الوعاظ الشاميين إليها، منتجعاً جدوى أعيانها، راغباً في إحسانها، فسألته عنهما فأخبر بغروب النجمين، وأفول الفرقدين، في أقرب مدة من سنتين. وكانت وفاة القيسراني قبله سنة ثمان وأربعين وخمسمائة.

أنشدني الفقيه عبد الوهاب الدمشقي الحنفي ببغداد في جمادى الأولى سنة خمس وخمسين وخمسمائة، قال: أنشدني الشيخ المهذب أبو الحسين بن منير لنفسه من قصيدة:

<<  <  ج: ص:  >  >>