ضربوا عليك من القَتام سُرادِقاً ... ركَزوا شعاع الشمس فيه رماحا
وجلَوْا ظلام الليل بالصبح الذي ... قسموه بين جيادهم أوضاحا
وأتوا بغدران المياه جوامداً ... قد فصّلوها ملبساً وسلاحا
هذا معنى حسن، قد جوّده الأعشى النحوي من شعراء المغرب، ولا أدري أيهما أسبق إليه:
ملك إذا ادّرع الدلاص حسبته ... لبس الغديرَ وهزّ منه منصلا
ولمحمد بن البين:
بُرودٌ قد خلِقنَ عليّ حتّى ... حكينَ الصّبرَ في يوم الوَداع
فجدّدْها ليشهد كلّ راءٍ ... بأني من هباتِك باتّساع
وحمِّلْ عاتِقي ثقْلَ المعالي ... فإنّي بالتحمّل ذو اضطلاع
باب في ذكر عدة من شعراء المغرب
من أهل العصر
الأديب الحكيم أبو الصلت أمية
ابن عبد العزيز بن أبي الصلت الأندلسي كان أوحد زمانه، وأفضل أقرانه، متبحراً في العلوم، وأفضلُ فضائله إنشاء المنثور والمنظوم، وكان قدوة في علم الأوائل، ذا منطق في المنطق بذّ سحبان وائل، سمعت أبا الفتح نصر بن عبد الرحمان بن إسماعيل الفزاري في ذي الحجة سنة سنتين ببغداد وروى لي كثياً من شعره: أن أمية من أهل المغرب، وسكن ثغر الإسكندرية، وله الباع الأطول في الأصول والتصانيف الحسنة على أسلوب كتاب اليتيمة للثعالبي، ثم وقع ديوان هذا أبي الصلت بيدي في دمشق فأخذته وانتخبت منه ما أوردته ونبهت على ما هو من روايتي في مواضعه، وكل شره منقح ملقح، ممدح مستملح، صحيح السبك، محكم الحوك، نظيم السلك، قويم الفلك، وذلك على ترتيب الحروف، وقد قرأت في ديوانه شعره بتاريخ سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، ولا شك أنه عاش بعد ذلك.
الهمزة فمن ذلك قوله في غلام اسمه واصل وهو مغنٍ مليح:
يا هاجراً سمّوه عمداً واصلا ... وبضدّها تتبيّن الأشياء
ألغيتَني حتى كأنّك واصل ... وكأنني من طول هجرك راء
وله ملغزاً بالظل من قطعة:
أُحاجيك ما لاهٍ بذي اللبِّ هادئ ... على أنه لا يعرفُ اللهْوَ والهُزْءا
بعيد على لمس الأكفّ منالُه ... وإنْ هو لم يبعد عِياناً ولا مرْأى
يُراسِل خِلاً إن عدا عدوَ مسرعٍ ... حكاه وإن يبطئ لأمرٍ حكى البطئا
ترى الرّحْلَ محمولاً عليه كأنّما ... مراسله من دونه يحمل العِبئا
ولم يخشَ يوماً من تعسف قفْرةٍ ... أساودها تسعى وآسادها تدْأى
يغيب إذا جنح الظّلام أظلّه ... لِزاماً ويبدو كلّما أنِسَ الضّوءا
ولكن يحيى ضده في ثباته ... فلا برعتنا الحادثات به رزءا
مليك إذا استسقى العفاة يمينه: توهّمتها من فيض نائلها نوءا
شوى مجده قلب الحسود لما به ... وأعياه أن يلقى لعلّته بُرءا
وقوله:
كم أرجّي الأراذلَ اللؤماءَ ... وإخال السّراب في القفْر ماءَ
ويْحَ نفسي ألا جعلت لربّي ... دون هذا الأنام هذا الرجاءَ
وقوله:
لا غرْوَ أنْ سبقتْ لهاكَ مدائحي ... وتدفّقتْ جدواك ملءَ إنائها
يُكسى القضيب ولم يحن إثماره ... وتطوّق الوَرْقاء قبل غِنائها
الباء وقوله من قصيدة في الأفضل سنة أربع عشرة وخمسمائة:
نسختْ غرائب مدحكَ التّشبيبا ... وكفى به غزَلاً لنا ونسيبا
لله شاهِنْشاه عزمَتُك التي ... تركت لك الغرضَ البعيدَ قريبا
لا تستقرّ ظباك في أغمادها ... حتى تروّيها دَماً مصبوبا
والخيللا تنفكّ تعتسِف الدّجى ... خبباً الى الغارات أو تقريبا
تصبو الى ما عُوّدتْ من شنها ... فتواصل الإسآدَ والتّزويبا
وترى نَمير الماء صفْواً كلّما ... وردَتْه طرْقاً بالدّماء مَشوبا
ومنها في صفة الخيل:
من كل منتصب القَذال تخالُه ... رشأ بإحدى الجهلتين رَبيبا
حكم الوجيهُ له وأعوَج أنّه ... سيجيء فرْداً في الجياد نجيبا