[الصالح أبو الغارات طلائع بن رزيك]
سلطان مصر في زمان الفائز وأول زمان العاضد. ملك مصر، واستولى على صاحب القصر، ونفق في زمانه النظم والنثر، واسترق بإحسانه الحمد والشكر وقرب الفضلاء، واتخذهم لنفسه جلساء، ورحل إليه ذوو الرجاء، وأفاض على الداني والقاصي بالعطاء. وله قصائد كثيرة مستحسنة أنفذها إلى الشام، يذكر فيها قيامه بنصر الإسلام. وما يصدق أحدٌ أن ذلك شعره لجودته، وإحكام مباني حكمته، وأقسام معاني بلاغته، فيقال إن المهذب بن الزبير كان ينظم له وإن الجليس بن الحباب كان يعينه؛ وله ديوان كبير، وإحسان كثير. ملك سنة تسع وأربعين، وفتك به في دهليز القصر في سنة ست وخمسين وخمسمائة بالقاهرة؛ وانكسفت شمس الفضائل الزاهرة، ورخص سعر الشعر، وانخفض علم العلم، وضاق فضاء الفضل، واتسع جاه الجهل، وانحل نظام أهل النظم، وانتثر عقد ذوي النثر، واستشعر الفاقة الشعراء، وعدم البلغة البلغاء، وعد الفضل فضولا، والعقل عقولا. وظل الفحل القارح من قريحة الحباب مقروحاً مجنوباً، وطلب المهذب مذهباً في الذهاب محبوباًن ومركباً في النجاة مجنوبا، وأضل الرشيد طريق رشده فاحترق بشرار شر شاور من بعده، وعاد ابن الصياد إلى حرفة أبيه، ونبا المقام بالنبيل النبيه، وعجل ابن رواحة الرواح، حين تأمل دفتر تأميله فلاح أن لا فلاح. وعضل المهذب بالشام أخت الكافية الكافية لما عدم كفؤها الأيد، وحص الحصكفي الكفي عدة قصائد فلم يسقها من قريته لقطر مصر البعد، وطفق فضلاء الحضرة يغيبون لحضور الناقصين، وكرب أدباء تلك المدرة يذوبون لجمود الغامضين الغامصين، وعاد السر شورى، والعيد عاشورا، والسخف منشورا، والعسف مأثورا، والقريض مقروضا، ويد الرفض مقبوضة، وعين الحمد مغضوضة، وعم رزء ابن رزيك، وملك صرف الدهر ذلك المليك، فلم تزل مصر بعده منحوسة الحظ منسوخة الجد، منكوسة الراية، معكوسة الآية، إلى أن ملكها يوسف الثاني، وجعلها مغاني المعاني، وأنشر رميمها، وعطر نسيمها، وأرج رياها، وبلج محياها، وأعلى سناها، وأحلى جناها، وأعاد ماءها، وأباد أعداءها، وافترع عذرتها، وفرع ذروتها، ونفى سودها، وعفى أسودها، وخلص فتوحها، ولخص شروحها، وتسلم قصرها، والتزم خصرها. فليفتح الصالح عينه ليعاين ملك الصلاح، ناهضاً بجناح النجاح، خافقاً في الخافقين بقوادم الإقدام، طائراً من قدام بأسه بخوافي الخوف قلب الباسل الهمام. قال: جرى لي جود الخاطر في جودا البيان، ومضمار هذا الميدان، وأخرجني من شرط الكتاب، إلى بسط هذا الباب، فلنقطع أطناب الإطناب، ولنورد ما نلقطه من الأشعار المنسوبة إليه، فمن جيده القصيدة الطائية التي كتبها إلى الأمير مؤيد الدولة في جواب قصيدة طائية كتبها إليه، ومطلعها في غاية الحسن، وهي قوله:
هي البدرُ لكنَّ الثريا لها قُرْطُ ... ومن أَنجُمِ الجوزاءِ في نَحْرِها سِمْطُ
مشتْ وعليها للغمامِ ظلائلٌ ... تُظِلُّ ومن نَسْجِ الربيع لها بُسْط
تؤم صريعاً في الرجال كأنه ... من السقم، والأيدي تقلِّبُهُ، خَطُّ
فما اخضرَّ ثوبُ الأرض إلا لأنها ... عليه إذا زارت بأقدامها تخطو
ولا طابَ نشرُ الأرض إلا لأنه ... يُجَرُّ عليه من جلابيبها مِرْط
ولا طار ذكر الظَّبْيِ إلا وقد غدا ... يصدُّ كما صَدَّتْ ويَعْطو كما تعطو
من البيضِ مثلُ الصبح ما للظلام في ... محاسنها لولا ذوائبها قِسْط
إلى العَرَبِ الأَمحاض يُعْزَى قبيلها ... وقد ضمها في الحسْنِ مَعْ يوسفٍ سِمْطُ
ولما غدت كالعاج زُيِّنَ صَدْرُها ... بحُقَّيْنِ منها قد أَجادهما الخَرْط
وأُرْسِلَ فوق الخدِّ صُدْغٌ مُكلَّلٌ ... كما أُرْسِلَتْ في الروض حَيَّاتُهُ الرُّقْطُ
ذوائبُ زان الخصرَ منهنَّ فاحمٌ ... تحدَّرَ لا جعدُ النَّباتِ ولا سَبْط
ومنها وهي طويلة:
وظلماءَ للشهب الدراري إذا سَرَتْ ... هناك مع السارين في جُنْحها خَبْطُ
كما أوَّلُ الفجرين سَقْطٌ يُسَلُّ مِن ... حشاها كذاك البرق في جوّها سَقْط