فللبدر ما فوق أَزرارها ... وللغُصن ما تحت جلبابها
كأَني ذَعَرْتُ بها في الخِبا ... ءِ وَحْشيةً عند مِحرابها
أُتَبِّعها نظراً معجلاً ... يُعَثِّر عيني بُهدّابها
متى شاء يقطِف وردَ الخدود ... وَقَتْهُ الأَكُفِّ بعُنّابها
وكم ناحلٍ بين تلك الخيا ... م تحسِبه بعض أَطنابها
لا يعارض هذا السحر، ولا يناقض هذا الشعر، إلا من يفتضح، وبينة قصوره تتضح، فإن الشاعر المفلق، إذا في قصيدة ووفق، فالألسنة تصقلها، والرواة تنقلها، ولا يتفق لشاعر في مدة عمره إلا قصائد معروفة، وهمته لاستحسان الناس لها مصروفة، فالأريب، اللبيب الأديب، ذو القريحة الصحيحة يتعرض لقبول النصيحة، ولا يعرض بمعارضتها نفسه للفضيحة، فإن نظم مثلها، واحكم صقلها، فمن أين له قبولها، ومتى ينفق ويتفق سوقها وسولها، وما كل حسن مبخوت، وإن نظم دونها فهو ممقوت، ومن ملك القدرة على حر الكلام في سر البلاغة، وسحر الصياغة، غاص بحر الفكر، لاستخراج الدرر، ولم ير من همته إلا التفرد بالثناء الغرر، لتتفرد بالقبول فرائده، ولتفد العقول فوائده، وتنير بالإشراق مقاصده، وتسير في الآفاق قصائده.
[سعادة بن عبد الله الأعمى]
من أهل حمص يعرف بسعادة، ويكتب على قصائده سعيد بن عبد الله، وكان مملوكاً لبعض الدمشقيين مولدا. شاب ضرير، شبا خاطره طرير، قد توفرت بصيرته وإن ذهب بصره، وأقرحت قريحته وشبت فكره.
لقيته بحمص مراراً، وسافر إلى مصر في أول مملكة السلطان الملك الناصر، وعاد بوفر وافر، وغنى ظاهر، وحصلت له زيادة على ألف دينار، وهو محظوظ مرزوق من نظم الأشعار.
كتب جالساً بين يدي الملك الناصر صلاح الدين بدمشق في دار العدل، أنفذ ما يأمر به من الشغل، فحضر سعادة الضرير ووقف ينشد هذه القصيدة في عاشر شعبان سنة إحدى وسبعين:
حَيَّيْتك أَعطافُ القُدود ببانها ... لمّا انثنتْ تيهاً على كُثْبانها
وبما وقى العُنّابُ من تُفّاحها ... وبما حماه اللاّذ من رُمّانها
من كلِّ رانيةٍ بمُقلةٍ جُؤْذَرٍ ... يبدو لنا هاروت من أَجفانها
وافَتْك حاملة الهلال بصَعْدَةٍ ... جعلت لواحظها مكانَ سنانها
حوريّةٌ تَسقيك جَنَّةُ ثغرها ... من كوثرٍ أَجْرَتْه فوق جُمانها
نزَلت بوَاديها منازلَ جِلَّقٍ ... فاستوطنت في الفِيحِ من أَوطانها
فالقصرِ فالشَّرَفَيْنِ فالمرجِ الذي ... تحدو محاسنه على استحسانها
فجِنان برْزَتها فيا طوبى لمن ... أَمسى وأصبح ساكناً بجِنانها
بحدائقٍ نُظِمت حليُّ ثمارِها ... نظمَ الحليّ على طُلى أَغصانها
فكأَنهنّ عرائس مَجْلُوَّةٌ ... وكأَنها الأَقراط في آذانها
ومرابع تُهدي إِلى سُكّانها ... طيباً إِذا نَفَحت على سكّانها
أرجاً لدى الغَدَوات تحسب أَنه ... مِسْكٌ إِذا وافاك من أَردانها
فالنَّوْر تيجان على هاماتها ... والنُّور أَثواب على أَبدانها
والوُرْق قَيْناتٌ على أَوراقها ... تَفتَنّ بالألحان في أَفنانها
أَحنو إِلى الهَضبات من أَنشازها ... لا بل إِلى الوَهَدات من غيطانها
وأَحنّ من شوقٍ إِلى مَيْطورها ... وأَهيم من توْقٍ إِلى لَؤانها
وأَبيتُ من وَلَهٍ وفَرْط صبابةٍ ... أَبكي على ما فات من أَزمانها
أَيّام كنتُ بها وكانت عيشتي ... كالرَّوْضة المَيْثاء في إِبّانها
والربوةُ الشماء جنّتيَ التي ... رضوان منسوب إِلى رضوانها
دارٌ هي الفردَوْس إِلاّ أَنها ... أَشهى من الفردوس عند عِيانها
ومنها يصف البركة والفوارة:
لنُهود بركتها قدودٌ، رقصها ... أَبداً على المزموم من أَلحانها
ومعاطفٌ عَطَفَ النسيمُ قِسِيَّها ... فَهَوَتْ بنادقها على ثعبانها
دُحِيَتْ كُراتُ مياهها بصوالجٍ ... جالت فوارسهنّ في مَيْدانها