للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إيّاك أن تصبحَ الأيّامُ تاليةً ... من سوء فعلك ما يبقى على الحقب

وذكره أبو الصلت أمية بن عبد العزيز في رسالة له وقال: لمْ يُقبِل الأفضل على أحد من الشعراء كإقباله على رجل من أهل معرة النعمان يُدعى أبا الحسن علي بن جعفر بن البوين، فإنَّه أفاض عليه سحائب إحسانه، وادرَّ عليه حَلوبَةَ إنعامه، ولقبه بأمين الملك وأدناه واستخلصه، ولم يكن شعره هناك بل متكَلَّفاً، ولست أعرف أحداً من أهل تلك البلاد يروي له بيتاً واحداً فما فوقه لمنافرة الطِّباع كلامه، ونُبوّ الأسماع عن طريقته. فأمره الأفضل يوماً أن يصف مجلساً عُبِّيت فيه فواكه ورياحين، فقال من مزدوَجَةٍ طويلةٍ يصف الأُتْرُجّ المُصَبَّع:

كأنّما أُتْرُجُّه المُصبَّعُ ... أيدي جُناةٍ من زُنودٍ تقطَعُ

فغلِطَ ولم يفطَن وأساءَ أدبه ولم يشعر، لأنَّه قصد مدح الأُترجِّ فقفَّزَ نفس الملك منه، وصرفها عنه، ولو قصد ذمَّه لما زاد على ما وصفه من الأيدي المقطوعة من زنودها. والبليغ الحاذق من إذا وصف شيئاً أعطاه حقَّه، ووفّاه شرطَه، ووصفه بما يناسبه في حالتي مدحه وذمِّه، ووضع كل شيءٍ مكانه من نثره ونظمه.

وأين هذا الشاعر في أدبه ومعرفته بالصناعة وفطنته من أبي علي حسن بن رشيق حين أمره المُعزّ بن باديس بوصف أُترُجَّةٍ مُصبَّعةً كانت بين يديه فقال على البديهة:

أُتْرُجَّةٌ سَبْطَةُ الأطراف ناعمةٌ ... تلقى العيونَ بحسنٍ غير مبخوس

كأنَّما بسطت كَفّاً لخالقِها ... تدعو بطول بقاءٍ لابن باديس

ومن شعر ابن البوين قوله:

يا من تنافَسَ فيه السمعُ والبصرُ ... كما تغاير فيه الشمس والقمر

ومَن تحكَّم في الأرواح فاحتكمت ... أن لا يُحكَّم فيها بعده بشر

وقوله:

مَنْ لا يُجازي على الإحسان مادحَه ... لم يخشَ هاجيه منه خِجلَةَ النّدم

إن كنتُ قد جُرتُ في المدح المُعارِ فقد ... عدلْتُ في الهَجو إباءً على الكرم

وابتعت كتباً من خزانة القصر بالقاهرة فوجدت مكتوباً بخط ابن البوين على بعضها ما ذَكر أنّه له فمن ذلك قوله:

الكاتبين بأقلام السيوف على ... هام العِدى أسطُراً يَحْمِدْنَ مَنْ سطَرا

الناقطين بخُرصان الذَّوابل مِن ... حروف ما زَبروا ما تُخجِل الزُّبُرا

وقوله:

فيم التنافسُ والحياةُ ذميمةٌ ... والدهر في صدق المواعد مائنُ

عُدِمَ البقاءُ وعيشةٌ مَرضِيَّةٌ ... وسلامةٌ من سوء ما هو كائن

لا تأْسَ إن منعتْكَ دَرَّةَ ثديها ... وجفَتْكَ، فالمغبون فيها غابن

السابق المعري

أبو اليمن بن أبي مهزول

هو قريب العهد، داني العصر، سافر إلى العراق في زمان ابن جهير، واجتمع بابن الهبارية، وأحسن ما سمعت له قوله في الهجو، أنشدنيه غير واحد:

إليَّ أرسلْتَ مقالَ الخَنا ... ستحرق النارُ فمَ النّافخ

أقدمْتَ يا أوقحَ مِنْ أَيِّلٍ ... على ابتلاع الأرقم السّالخ

يا حلقة الخاتَم يا إبرةَ الْ ... خيَّاطِ يا مِحبرَةَ الناسخ

وأنشدني القاضي أبو اليسر الكاتب له بيتين في مرثية عم أبيه وادع من قصيدة:

أبا مسلِمٍ لا زلتَ منّا على ذِكْرٍ ... ولا درسَتْ آياتُ عَلياك في الدهر

وكنّا نُعِدُّ الصبرَ للخطب يعتري ... إلى أن أُصِبنا عند يومك بالصبر

وله في غلام ينظر في مرآة:

وظبيٍ قابل المرآةَ زَهواً ... فأحرق بالصّبابة كلَّ نفس

وليس من العجائب أن تأَتَّى ... حريقٌ بين مرآةٍ وشمس

وقوله وقد سافر إلى خراسان:

قالوا تزوَّجْ بأرضٍ مَرْوٍ ... تعيشُ في غِبطةٍ وخير

قلتُ صدقتم بأيِّ مالٍ ... أعيش فيها وأيِّ أَيْرِ

وقال يهجو ابن البوين الشاعر:

شعر البويني له روعةٌ ... ليس لها في النَّقد محصول

مثلُ حِبال الشمس ممدودةً ... ما فاتها عَرْضٌ ولا طول

أبو المُعافى بن المُهذَّب

هو سالم بن عبد الجبار بن محمد بن المهذَّب

<<  <  ج: ص:  >  >>