فلست ككلب السوء يرضيه مَرْبض ... وعظم ولكنّي عقاب سماء
تحوم لكيما يدرك الخصب حومها ... أمام أمام أو وراء وراء
وكنت إذا ما بلدة لي تنكرت ... شددت إلى أخرى مطي إبائي
وسرت ولا ألوي على متعذر ... وصممت لا أصغي إلى النصحاء
كشمس تبدت للعيون بمشرق ... صباحا وفي غرب أصيل مساء
وقال عند زهده في الدنيا وانقباضه، ونفض يده عنها وإعراضه:
نفضت كفي عن الدنيا وقلت لها ... إليك عنّي فما في الحق أغتبن
من كِسر بيتي لي روض ومن كتبي ... جليس صدق على الأسرار مؤتمن
أدري به ما جرى في الدهر من خبر ... فعنده الحق مسطور ومختزن
وما مصابي سوى موتي ويدفنني ... قوم وما لهم علم بمن دفنوا
[الوزير أبو عمرو الباجي]
الكاتب، قرأت له من مجموع هذين البيتين:
غلطت يا دهر أكثر الغلط ... فارجع فإن الأنام في قنط
فلم تزل ترفع الخفاف على ... حال ولكن من غير ذا النمط
ووصفه كتاب قلائد العقيان بالإعجاز في البيان، والسبق في ميدان الإحسان، وأنه كان في زمان نفاق الفضائل، وإشراق الوسائل، وتزين سماء السماح بكواكب الأكارم، وترنم أطيار الأوطار في رياض النجاح بغناء الغنائم، وحظي من المعروف بالمقتدر، بكل معروف وقدر، وتمكن منه تمكن القلب في الصدر، ولقي من أهل سرقسطه، ما أجزل من كل عارفة قسطه، ثم رحل عنهم، فحن إلى لقائهم، فقال يخاطبهم ويثني على آلائهم:
سلام على صفحات الكرم ... على الغرر الفارجات الغمم
على الهمم الفارعات النجوم ... على الأيمن الغامرات الديم
سلام شج لانقلاب المزار ... نوى غربة عن جوار أمم
شجى عن نزاع يذيب الدموع ... بنار الجوانح لا عن ندم
وأيّ الندامة من مجمع ... على ما نوى همّه أي هم
وهل يتلوّن رأي الأريب ... إذا جدّ في أمره واعتزم
عزمت على رحلتي عنكم ... فسرت بقلب شديد الألم
أضاحك ضيفي وأطوي الفجاج ... وفي كبدي لاعج كالضرم
فما أنس لا أنس ذاك السّنا ... وذاك السناء وتلك الشيم
ودنيا بكم طلقة المجتلى ... ودهرا بكم واضح المبتسم
وساعة أنس تجول النفو ... س فيها مجال حمام الحرم
أحنّ إليكم فمن شاقه ... تذكر عهدكم لم يلم
وإن كنت مغتبطا ساحبا ... ذيول الرضى في قرار النعم
وأنشر من فضلكم ما حييت ... على أنه سافر كالعلم
فما روضة الحزن ذات الفنون ... إذا ما الصباح عليها ابتسم
وقد بلل الطل أحداقها ... كأنّ الفريد عليها انتظم
بأطيب من نفحات الثناء ... أسيّرها عنكم في الأمم
أروح وأغدو بها خاطبا ... لدى سامعي عرب أو عجم
لدى كل معترف تابع ... إذا قلت، ألقى إلي السلم
ومن حقكم شكر آلائكم ... ومن حق شانئكم أن يذم
ومن نثره كنظم السمط، يصف المطر غب القحط: