فلما سمع النسر مقاله ودعه وطار، وقال لعل في الانتظار، بلوغ الأوطار. وأثبت في نفسه الرجوع، وقال أمنع عيني هذه الليلة لذة الهجوع، وقال أصبر على العذاب الأليم، ومن طلب عظيماً خاطر بعظيم، وبالصبر يحلو صاب المصاب، وبالجلد تصاب أغراض الصواب، ومن لم يتحمل أعباء الأثقال، ولم يصبر لصعاب الأهوال، تكدر صفاء مسرته وقعد قائم سعادته، وخذله الزمان، وقتله الحرمان.
ثم سقط على بعض الأشجار، متوخياً بزعمه مضي النهار، وأدركه الليل فنام، وغرق في بحر الكرى وعام، وكلما حركت سواكنه داعيات الطلب، وأقامت قاعدة مزعجات الأرب. قال: الليل بعد في إبان شبابه، ولعله ما جاء الملك مع أصحابه، وساعة تكفي العاقل، ولمحة تشفي الفاضل، وكثرة الحرص سبب الحرمان، وربما أفضت فوارط الطلب إلى الهوان، واغتنام راحة ساعة من العمر، فرصة جاد بها بخيل الدهر، وكم نائم حصل مراده، وساهر أخطأه إسعاده.
ولم يزل في رؤيا أحلام الأباطيل، وإقامة المعاريض الفاسدة التأويل، حتى وضح فلق الصبح من مشرقه، وتمزقت عنه جلابيب غسقه، وبدا حاجب أم النجوم، وامتدت أشعتها على التخوم، فتنبه من رقدة غفلته، وطار من وكر جهالته، وأم روضة البلبل طائراً، ونزل عليها دهشاً حائراً، وقد تفرق جمع الملك في السكك، تفرق الشهب في الفلك، وغلقت أبوابها، وتفرقت أصحابها.
فقال له البلبل: يا هذا! ما الذي شغلك حتى أشغلك، وما الذي مناك، حتى عدمت مناك؟! وأن من شد وسط اجتهاده، وصل إلى بلوغ مراده، وبصدق الطلب، تدرك قاصية الأرب، ومن ركن إلى إطالة البطالة، استحالت منه صورة الحالة، والليل مطايا الأحرار، إلى بلوغ الأوطار، ونجائب ذوي الألباب، إلى بلوغ المحاب.
فلما أكثر البلبل على النسر العتاب، وانغلقت عنه أبواب الصواب، ودعه وطار، وقد عدم الأوطار. وكذلك حال ذوي الأحوال، ومن له دعوى الصدق في المقال، والعقال يؤاخذون بخطراتهم، ويطالبون بعثراتهم، ويهجرون لأجل لحظة، ويقطعون بسبب لفظة، ويتكدر عليهم مشرب أوقاتهم لأجل هفوة، ويمر حلو خلواتهم بأقل جفوة، فكيف من تفرش له فرش الغفلة، ويتوسد وساد حب المهلة، ويلذ له كرى اللعب والبطالة، ويستمرئ مرعى الغي والجهالة، ويعتقد أنه بمثل ذلك لا يطالب، وعلى مثل ذلك الحال لا يعاتب، هيهات إن سعداً لغيور، وإن الله لأغير من سعد، نامت عين الخليل، فأمر بذبح إسماعيل، ونام يوسف متلقياً لأسرار الغيوب، ففرق القدر بينه وبين يعقوب، ونام محمد صلى الله عليه فقيل له: يا أيها المدثر، قم فأنذر. نحن لا نرضى لبعض أصحابك بالمنام، فكيف نرضاه لك وأنت سيد الأنام.
وأم هذه الرسالة بفصل وعظي ليس من شرط الكتاب.
الأمير يغمر بن عيسى
ابن العكبري
من موليد الأتراك بدمشق وأمرائها المعروفين. لقيته بدمشق، وهو ذو فضائل مقرظة، وشمائل حلوة وفظنة متيقظة. شاب من جملة الأمراء شجاع مقدم مقدام متظرف، من الأدب متطرف. خان أمله، وحان أجله، وفل الشبا الطرير من شبابه الطري، وجرى القدر بأفول كوكبه الدري، وكبوة جواده الجري، وذلك في سنة ثمان أو تسع وخمسمائة، وأخلفت وعود رجائه، وذوى عود بهائه.
وجدت رسالة له بخطه ذكر فيها ما يتضمن معاشرة الإخوان، وتعب الزمان، والحث على اغتنام الفرص، ووصف الصيد والقنص، وشرب المدام، وتقلب الأيام. ونقحناها وصححناها، وحذفنا منها وأصلحناها، وكللناها ورصعناها، وأوردنا منها ما وقع الاختيار عليه نظماً ونثراً، وأحيينا له بإيرادها ذكراً. وهي: للصبا أطال الله بقاء مولاي الأخ الكامل الفاضل، روح جسد الإخاء وقلبه، وحلى معصم الصفاء وقلبه، ومدار فلك الوفاء وقطبه، وختام رحيق الحياء وقطبه، ويتيمة جيد الفضل وعقده، وفريدة حبل الطول وعقده، ويمين شخص البراعة وشماله، وجنوب مهب الشجاعة وشماله، وإنسان عين الزمان، والملاذ به من الحدثان.
أَخ لي على جَوْر الزمان وعَدْله ... وعوني على استهضامه واشتماله
إِذا غالني خَطْبٌ وقاني بنفسه ... وإِن نالني جَدْبٌ كفاني بماله
فتىً جعل المعروف من دون عِرْضه ... ولم يقتنع عنه بزُرْقِ نِصاله
أَباد أَعاديه بغَرْبِ حُسامه ... وجاد لِعافيه بسَيْب نَواله