ويحك! من أين لك هذه الملح المسكية النشر، والمنح العنبرية العطر، جبلتك عنصر هذه الفضائل، أم استمليت طرف أخبارها من قائل؟ فقال له البلبل: يا من سبح في بحر التخليلط وعام، وظن أن القدر يعطي ويمنع بالأجسام، فيعرض عن الصغار ويقبل على العظام.. أما صغري فلا أقدر على تغييره، والأمر للصانع الحكيم في تدبيره، أما علمت أن الأرواح لطائف وهي أشرف من الأجسام، والأجسام كثائف والمعتبر فيها جودة الأفهام، وإنسان العين صغير ويدرك الأكوان والألوان، والإنسان عظيم والمعتبر منه الأصغران: القلب واللسان، ما يكون الدر بقدر الصدف، وشتان ما بينهما في القيمة والشرف، ولا الآدمي كالفيل، وبينهما بون في التفضيل، واللؤلؤ قطر يقع في أعماق البحور، ويعلق بعد ذلك على الترائب والنحور، وليس الاختصاص بظواهر المباني، وإنما هو بلطائف المعاني. وكم من صغير وهو في عين ذي النهى كبير، وفي فكر اللبيب أخي الفضل خطير.
وما نطق الفيلُ الكبير بعُظْمه ... وقد نطقت قِدْماً مُقَدَّمة النمِل
كذلك ما أَوحى إِلى النَّسر ربُّنا ... وإِن كان ذا عُظْمٍ وأَوحى إِلى النحل
وأما النغمة التي قرع طرف سمعك سوط لذتها، ورشق هدف قلبك نبل طيبتها، فإنني رصعت شذرها في عقد ألحاني، على نغم بعض الأغاني. وذلك أن هذه الروضة فجرت أنهارها، وغرست أشجارها، وفتقت نوافج عطرها، وأشرقت مباهج زهرها، وأقيمت عمد قبابها، وعلقت أستار أبوابها، وهيئت على أمر مقدر، لبعض ملوك البشر، فهو يأتيها كل ليلة إذا ولى النهار، وأظلمت الأقطار، وصبغ الليل ثوب الكون بظلمته، فأشبه لباس العباسي في خلافته مع من يختار من ندمائه، ويؤثر من أصفيائه، وقد أشعلت له فيها الشموع، واتقدت بأشعتها الربوع، ونصبت ستائر القيان، واصطفت صنوف الحور والولدان، وأفرغت شموس الخندريس في أفلاك الكؤوس، بأيدي بدور الرهبان ونجوم القسوس، وعقدت الزنانير على الخصور، وأسبلت طرر الشعور، على غرر البدور، ورجعت أناجيل الألحان، وقبلت صلبان الصور بأفواه الأشجان، ونقرت أوتار المثالث والمثاني، وقامت العقول ترقص في قصور الصور والمباني.
وينقضي ليلهم في لهو وطرب، وجد ولعب، وهزج ورمل، واعتناق وقبل، وأحاديث كقطع الرياض، ومحادثات كبلوغ الأغراض، حتى يخرج الليل من إهابه، ويعرج على ذهابه، ويسفر الصباح، وقد هز عطفي ذلك الارتياح، وأنا خبير بشد دساتين عيدان الألحان، بصير بحل عرى النغمات الحسان، فمنهم تعلمت طرفها، وشددت وسطها وطرفها، وصرت فيها إلى ما ترى، وعند الصباح يحمد القوم السرى.
فقال النسر: إنك سقيتني بحديثك أسكر شراب، وفتحت لي بأخبارك أغرب باب، كيف السبيل إلى المبيت لتعلم هذه النغم الشهية، والفوز بحفظ هذه الأصوات الأرغلية؟ فقال البلبل: بالجد والاجتهاد، تدرك غاية المراد، وبالعزمات من استوطأ فراش الكسل، وأم العجز أبداً عقيم، والخمول لا يرضى به إلا مليم، وبالحركات، تكون البركات، وثمار السعود، لا تطلع في أغصان القعود، وبالهز تسقط الثمار، وبالقدح توجد النار، والحياء توأم الحرمان، والهيبة والخيبة أخوان،
ومن هاب أَمراً ثم لم يك مُقْدِماً ... عليه بصدق العزم والقول والفعلِ
يفوت ولا يعطيه منه مُرادَه الزّمان، وبعد المَقْر يُجنى جَنى النحل
إِذا تقوست قامة النهار، وجعلت رجل الشمس في قيد الاصفرار، وولت مواكب النور، لقدوم سلطان الديجور، وأنارت روضة السماء بزهر الكواكب، وطلعت الشهب فيها من كل أفق وجانب، فأت إلى هذا المكان، عسى أن تسعدك بمطلوبك عناية الزمان، واختف عن رامق يراك، فإنه أعون على مبتغاك، وإياك أن تقول: إن قدر شيء وصل، وإن كان في الغيب مقضي حصل، فكم قد غر سراب هذا المقال من العقال، وما حصلوا إلا على الآمال.
ومُدْمِنُ القرع للأَبواب منتظرٌ ... بكثرة القرع للأَبواب أَن يلِجا
فانهض إِذا ضقت ذَرْعاً بالأُمور ولا ... تقعد، وقم مستثيراً وانتظر فرجا