للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فوقف في الهواء حين رآها، وقال: هذه غاية النفس ومناها، ها هنا ويلقي المسافر عصاه، وتستقر بالغريب نواه، وفي قرار هذا الوادي يثبت سيلي، ولمثله شمرت عن ساق الجد ذيلي. أين المذهب، وقد حصل المطلب، وأين الرواح، وقد أسفر الصباح! ومن بلغ غاية مراده، لم يلتفت إِلى حساده، ومن نال الأماني، لم يبالي بالمباني. ماء مصطخب الأوتار، وظل ممدود الإزار، وروض يمرح فيه الطرف، ولا يقطعه الطرف، وأزهار كقراضة الذهب، تناثرت من حرارة اللهب، أو كالفضة أخلصها سبك الكير، ونثرت في زوايا المقاصير، أو مصبغات أصناف الحلل، نشرت للناظرين بعد إتقان العمل. وخلوة من واش ورقيب، وبعيد يخشى أو قريب.

على مثلها ظلت فرداً أهيم وجداً وأمعن وحدي المطارا

فأَستخبرُ الشُّهُبَ النيّرا ... تِ عنها وأَقطع داراص فدارا

فبينا هو صافُّ الأَجنحة عليها، ينظر من الأُفق بعين التعجّب إِليها، إِذ سمع صوتعاً من بلبلٍ سِحريّ، على وكرٍ شَجَريّ، يناغي النسائم بنعمة مِزماره، ورَنَّة أَوتاره، ودساتين حناجر كالحناجر، وأَلحانٍ أَعذب من نقرات المزاهر، ينثر دُرّاً من عُقود أَلحانه، ولؤلؤاً من أَصداف افتنانه بين أَفنانه، ويرجّع قراءة مكتوب غرامه، ويتلو آيات حزنه من مصحف آلامِه.

ويهتف طوراً بذكر الفراق ... وطوراً بذكر بِعاد الحبيبْ

ويغتنم الوقت وقت الوصا ... ل حين خلا من حضور الرقيب

فقال هذه غريبة أخرى من غرائب القدر، وعجيبة ثانية لم ترها العين ولا هجست في الكر، وكاسات خمر تدار في الخمر، وعقود سحر تحل في السحر، ونغمة لم أسمعها من ذي منقار، وألحان ما رئي مثلها لسار ولا قار، كأنها ما قيل عن مزامير آل داوود، وتسابيحهم في الركوع والسجود، أو معبد والغريض، يتباريان في الطويل والعريض، أو إسحاق الفريد، يعدل عوده عند الرشيد، أو هزج شداة العجم، أو رجة حداة العرب في الظلم، أو أصوات رهبان الصوامع، أو تلاوة من تتجافى جنوبهم عن المضاجع.

نغمة تجلِب السُّرور وتحيي ... ميَّت القلب من ثرى الأَحزانِ

وتردّ الشباب بعد ثمانين وتُزري برنَّةِ العيدان

ما أُدبرت إِلاّ وقيل اسمعوا دا ... وود يتلو زَبوره في الجِنان

ثم هوى إلى القرار، لينظر من النافخ في المزمار، فرأى البلبل يتلو سور بلباله، في محراب وباله، ويرجع سجع ألحانه، في ربع أحزانه.

فكأَنه ثَكْلى على ولدٍ ... فَقَدَتْهُ بعد الضَّعفِ والكِبَرِ

فلها انتحابٌ حين تذكره ... ينسيك لذّة نغمة الوَتَرِ

فقال السلام عليك من طائر صغير حقير، يظهر في صورة كبير خطير، وشاد ظريف طريف، بغير أليف ولا حليف، ذي جسم كأنه سواد خال في بياض خد الحبيب، أو ظلمة حال المحب شاهد وجه الرقيب، أنت صاحب هذا اللحن المطرب، والصوت المعجب، ما أراك إلا صغير الحبة، بادي المحبة، ضئيل الجسم، نحيل الرسم، ليلي الإهاب، ظلمائي الجلباب، تقتحمك العين لحقارتك، وتنبو عنك لصغرك ودمامتك، قد اصفر منقارك لأحزانك، ولبست حداد أشجانك، وصوتك والمسرة فرسا رهان، ونغمتك والطرب رضيعاً لبان.

يُثير صوتك في القلب إِن ترنمتَ حُزْنا

وتُخجل النايَ حُسْنا ... وتعجز العود لَحْنا

وأنا مع عظم صورتي التي حازت خلال الكمال، وأحرزت خصال الجمال، صبحي الريش، لا أتغذى بالحشيش، ذو العمر الذي أفنى لبد، واستنفد الأبد، وقد تعجب منه لقمان، واحتاج إليه فرعون وهامان. ليس للطيور مطاري، عند طارئ أوطاري. أنا ملك الطيور، وسلطان ذوات الأجنحة على مر الدهور، ومالي حلاوة هذه النغمات، ولا لذاذة هذه الأصوات.

ولِعمري كذلك الدهر لا ير ... فع إِلاّ مَنْ كان بالخفض أَوْلى

ينظر العاقلُ اللبيب بعينٍ ... هي لا شكّ حن تنظر حَوْلا

<<  <  ج: ص:  >  >>