حتى أشرف من شرف مدائن الهواء، واطلع من رواشن أبراج السماء، على روض أريض، وظل عريض، وأنهار متدفقة، وأشجار مونقة، وطل منثور، وورد ومنثور؛ ومكان بهج، وزهر أرج؛ وحديقة ندية النبات، وبقعة مشكية النفحات، عنبرية الأرجاء، كافورية الهواء، قد صقلت بمصاقل القطر مرايا أزهارها، وعقدت لرؤوس أغصانها تيجان نوارها، وأكاليل جلنارها، ونشرت النسائم مطويات حللها من سفاطها، ورقصت حور نباتها على سعة بساطها.
كليالي الوِصال بعد صُدودٍ ... من حبيبٍ كالبدر بل هو أَبهى
إِن رأَيت الغنى ونيل المنى جَمْعاً وقابلتَه بها فهي أَشهى
ذات نبات خضر، وماء خصر، ضاحكة القرار، مشرقة الأنوار، وكأن شجراتها عرائس أبرزت للجلاء، أو قباب زبرجد نصبت في الروضة الخضراء، وكأن الفلك دنا إشليها، فتناثرت نجومه عليها.
رَوْضٌ أَريض وصوبٌ صائب وحياً ... مُحْيٍ، وغيثٌ مُغيثٌ دائم الدِيَمِ
تبارك الله ذو الآلاء كم سَفَرَتْ ... وُجوه أَحكامه للخلق عن حِكَمِ
فمن وَرْدٍ فِضّيّ الأَوراق، ذَهبيّ الأَحداق، كافوريّ الصبغة، مسكي الصيغة، مائي الجسم، هوائي الرسم، حاكت الصبا إهابه، وخاطب الشمال أثوابه، وفتحت الجنوب أكمامه، وحسرت الدبور عن وجه جماله لثامه، فظهر في أفق الشجر، كأنه شهب السحر، أو خدود الحور في القصور، ظهرت في غلائل من الكافور، أو أعشار المصاحف ذهبت أوساطها، أو غرر الوصائف عظم اغتباطها
أو وجنة الحِبِّ قَرَّت في ملاحتها ... عينُ المُحِبّ فأَبدتْ حُمرةَ الخَجَلِ
رقَّتْ فأَيسرُ وَهْمِ الفكر يجرحُها ... فكيف إِن لمستها راحة القُبَل
ومن آمن زمردي الإهاب، زبرجدي الجلباب، ذي ورقكأسنة الصعاد، أو كالصفاح جردت للجلاد من الأغماد، قد أخذ خضرة الفلك لوناً، وحلة جبل قاف كوناً، أشبه في اخضراره مرائر قلوب العشاق، عقيب الانشقاق، لروعة يوم الفراق.
كأَنه ودُّ مَنْ تمّت مودّته ... باقٍ مع الدّهر لا يَبْلى مدى الأَمد
يُهجى إِلى مَنْ له حُسْنٌ يضنُّ به ... أَي قد غسلتُ بماءِ اليأْس منك يدي
ومن نرجس كأجفان الملاح، أو كإشراق تبلج الصباح، منكس الأعراق، مطرق الأحداق، قائم على ساق خضرة، ألفية نضرة كأنه مدافات فضة قد رصعت خشية الانفطار، بمسامير من نضار.
متشوِّفٌ كالصبّ خوفَ رقيبه ... إِذا حان وقت زيارةٍ لحبيبه
فله إِلى جانيه نظرةُ خائفٍ ... منه، وشكوى مُدْنَفٍ لطبيبه
ومن بنفسج استعير لونه من زرق اليواقيت، وأخذ من أوائل النار في أطراف الكبريت، أو ثاكلات الأولاد، أظهرن الحزن في ثياب الحداد، أو بقايا قرص في خد وردي، أو أثر عض في عضد فضي، ذي أوراق خمرية، وأعراق عطرية، صاغت الأنداء من الزمرد قوامه، ونسجت الأهواء من الطل أكمامه، وأخذت من نسمات المسك نسمته، ومن أنفاس العنبر رائحته.
وكم في الرَّوْض من بِدَع وصُنْعٍ ... وآياتٍ تدل على القديمِ
وأَسرارٍ يحار العقلُ فيها ... فليس تكون إِلاّ من حكيمِ
ومن غصون تجتمع وتفترق، وتترنح وتعتنق، والنسائم تحل عقد أزرار الزهر، والأهوية تفتح أقفال أبواب الحصر، والشمس تسفر وتنتقب، وحاجب الغزالة يبدو ويحتجب، والعهاد يتعاهد بالقطار أكنافها، والسحب تطرز بالبروق عذبها وأطرافها. وهي آية من آيات الربيع أظهرها للعيان، ومعجزة من معجزات القدير أقامها على الزمان.
تُجْلى عرائسها بكلّ مُصَبَّغٍ ... وتميس تحت غلائل الأَزهارِ
فكأَنما فَتَقَ الربيعُ لأَرضها ... بيد النسيم نَوافِجَ العطّار