وإن الكتب الكريمة الواردة إلى القاضي الرشيد ما فاحت أزاهيرها حتى لاحت زواهرها، ولا تأرج نورها حتى تبلج نورها، ولا فتنت بها الخاصة، حتى جنت العامة، فكم نثرت من عقود عقولٍ كانت متسقة النظام، وحقرت من منقول مقول كان ملحوظاً بالإعظام، وعلى الجملة فلم يبق أحدٌ من الفقهاء والحكام، وأرباب السيوف والأقلام، حتى استشرف لرؤيتها وتشرف لروايتها.
[وأنشدني لنفسه من قصيدة:]
كيف واصلتَ قطعَ رشفِ رُضابهْ ... وبدا السخطُ منك بعد الرِّضَى به
وهجرتَ المنام كي يرجعَ الطيفُ ... لئلا ترقَّ عند عتابه
لَتَوَخَّيْتَ أَنْ ترى صورةَ الصبر ... عليه من قبلِ حينِ ذهابه
ولعمري لقد أسأْتَ به الظنَّ ... فَعُذِّبْتَ باجتنابِ عذابه
وقال في رافضيٍّ متهم الخلوة:
اختصرْ واقتصرْ على هُزْئك النا ... سَ ولا تدّعي الحِجَى والكتابهْ
واحتسبْ وانتصبْ لضرب نِعالٍ ... دامغاتٍ من أجل سبِّ الصحابه
واقتصدْ في البغاء يابن فعالٍ ... وتوقَّ انتصابه والتهابه
فهو داءٌ كما تقولُ ولكن ... أنت صَبٌّ برشف تلك الصُّبَابه
وقال في مدح الأجل الفاضل من قصيدة:
لا تلم في اضطرابنا لاحمرارهْ ... جُلُّ نار القلوب من جُلّنَاره
وهو حدٌّ يكاد يُقْبَضُ منه ... كل طَرْف لولا اعتذارُ عِذاره
ما رأى منكراً رُضابَ مدامٍ ... مذ روى طرفه حديثَ خُمَارِه
ليس فيه من راحةٍ لمريدٍ ... قبلة تُطْفِىءُ اضطرام اضطراره
غير أن الحياءَ فيه مُضَاهٍ ... للحَيَا في انهماله وانهماره
أوْجَدَا الفاضلِ الذي أوجد الجو ... د فمن كفِّهِ انفجارُ بحاره
ذلك السيدُ المشَيِّدُ للمجدِ ... إلى أن أَتى على إيثاره
من غدا الدهرُ باسمه باسمَ الزهرِ ... ضحوكاً به بهارُ نهاره
لم يطفنا من بِرِّهِ وردَ وعدٍ ... لم يَشِنْهُ انتظامُ شوكِ انتظاره
والده
الخطير بن مماتي
لقيته بالقاهرة مستولى ديوان الملك الناصر ديوان الجيش فيه أدب. كان هو وجماعته نصارى، فأسلموا في ابتداء الملك الصلاحي، وحصلوا على الجاه والحرمة الوافرة والعيش الرخي.
سايرته في الطريق مرة فأنشدني لنفسه هذا البيت في وصف الخمر إذا صبت من الإبريق:
إذا انبَرَتْ من فم الإبريقِ تحسبها ... شهابَ ليلٍ رمى في الكاس شيطانا
قال: ولأبي طاهر بن مكنسة في المعنى:
إبريقنا عاكفٌ على قدحٍ ... كأنه الأمُّ ترضعُ الولدا
أو عابدٌ من بني المجوس إذا ... توهَّمَ الكاسَ شعلةً سَجَدَا
وأبو المليح في ممدوح ابن مكسة الذي يرثيه بقوله طويت سماء المكرمات جد ابن مماتي.
وأنشدني الخطير لنفسه في كتمان السر:
وأكتمُ السرَّ حتى عن إعادتِهِ ... إلى المسرِّ به عن غير نسيانِ
وذاك أنّ لساني ليس يُعْلِمُه ... سمعي بسرِّ الذي قد كان ناجاني
وأنشدني لنفسه من قصيدة، وكتبه بخطه:
لم يَبْقَ من جسدي لفرطِ صبابتي ... إِلا الأَسى وتردُّدُ الأنفاسِ
وأَغَنّ معسولِ الثنايا أَشنبٍ ... أَلمى المراشفِ كالقضيب الآسِ
ينَادُ من هَيَفِ القوامِ كأنه ... غصنٌ يجاذبه كثيبُ دهاسِ
لولا توقدُ جمرِ نارِ خُدُودِهِ ... في نار وجنته حَسَاهُ حاسي
من خده وعِذاره ورُضابهِ ... وردي وريحاني الجنيُّ وكاسي
وله:
يظلمني العاذلون في رشإٍ ... إنْ قيلَ كالشمس كان مظلوما
مذ حلَّ رسمُ الصليبِ في يده ... حلَّ بقلبي هواهُ مرسوما
وله:
أعاذلتي إن الحديثَ شجونُ ... مكانُ سُلَيْمَى في الفؤادِ مكينُ
أأسمع عَذْلاً في التي تملك الحشا ... وأَتْبَعُهُ إني إِذنْ لخؤُون
ومنها: